قوله: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} هذه آية من الفاتحة عندنا و من كل سورة افتتحت بها و لا خلاف بين العلماء في أنها منزَّلة و أنها قرآن في سورة النمل.
و اختلفوا بعده فقال مالك: {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ} ليس بقرآن إلا في سورة النمل و إنما دخل في كل سورة على جهة التبرك بها و ليس لأبي حنيفة فيه نصٌّ وحُكيَ أنّ مذهبه فيه كنحوِ مذهب مالك والمشهور من مذاهب أصحابه الذي يناظرون عليه أنه قرآنٌ، و لكن ليس من كل سورة و إنما دخل للفصل بين السورتين، وأجمعوا أن فاتحة الكتاب سبع آيات فمن عدّ : {بِسْمِ اللهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ}آية عدّ : {صِرَاطَ الَّذِينَ} إلى آخر السورة آية واحدة، و من لم يعد التسمية آية عدّ : {صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ}. آية واحدة.
و الحجة في أنها آية منزلة من الفاتحة و من كل سورة أثبتت فيها أنهم كتبوها بالقلم الذي كتبوا به المصحف على الوجه الذي كتبوا القرآن مـع فـصلهم بـين القـرآن، و إثبـات عـدد الآيـات والعواشر، و الفواصل، دالة على أنّها ليست من القرآن مع ورود الخبر عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قـال: (أول ما أنزل) في خبر ابن َّ عباس، و ليس هذا موضع بسط الكلام في هذه المسألة.
قوله: {بِسْمِ اللهِ}فمعناه أبدأُ {بِسْمِ اللهِ}أو بدأتُ {بِسْمِ اللهِ}و يجوز أن ينوي المضمر في أجزائها على معنى بسم االله أبدأ و استغنى عن إظهار المضمر في هذا الموضع لدلالة الحال عليه،و مثل هذا الإضمار كثير في كلامهم عند دفن الميت على اسم االله و على ملة رسول االله، و معناه أضعه في حفرته على اسم االله وتقول للرجل يستأذنك في الفعل على اسم االله أي افعل على اسم االله، ويقال سبحانك اللهمَّ وبحمدك، المعنى : و بحمدك كان ذلك.
و يقال في اليمين و القسم باالله أي أحلف وربَّما يُظهرون المُضْمَرَ كما قال االله تعالى: {بِسْمِ اللَّهِ مَجْرَاهَا وَمُرْسَاهَا}وفي الخبر أن النبي صلى االله عليه وسلم كان يقول عند نومه: (باسمك اللهمَّ وضعتُ جنبي فاغفِر لي ذنبي).
وقال االله تعالى: {اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ}
ومعنى{بِسْمِ اللهِ}في القرآن أي افتتحوا القراءة{بِسْمِ اللهِ} ومعنى قول الناس {بِسْمِ اللهِ}
عند قصدهم إلى الأكل والقعود وغير ذلك من الأفعال ما قد ذكرناه أي أبتـدأ وهذا الباء تسمى باء الإلصاق لأنك إذا َ قلت كتبتُ بالقلم فمعنـاه أن الكتابـة ملصقة بالقلم، وهي حرف جرٍّ وحروف الجر يقال لها الظروف والظـرف يقتـضي شـيئًا يقع فيه فحرف الجر مع ما بعده يكون ظرفا للفعل أو لمعنى الفعل، ويتنزل الجار إذا دخل على المجرور منزلة حرف منه وحكم هذه الباء أن تكون زائـدةً مجـرورة لأنهـا اختـصت بمعمـول واحد، وهو الجر فاختير لها أن تكون حركتها من جنس حركة معمولها فكسروها مخالفة بينهـا وبين أصولهم في ما عداها من الحروف، فإن عند النحويين ما كان على حرف واحد كان الأمـر فيه الفتحة لأنها في نفسها ساكنة ولها صدور الكلام فاختير لها الفتح لخفته لما لم يمكنهم النّطـق بالساكن.
فأما لام الإضافة فإنما كسروها مخافة الّلبس بينها وبين لام التأكيـد لهـذا ردوهـا إلى أصـلها في الفتحة عند زوال اللبس في المضمرات، فقالوا المالُ لكَ لأنّ لام التأكيد لا تدخلُ عـلى الكـاف وخصُّوا لام الإضافة بالجرّ دون لام التأكيد لأنَّ معمـولَ لامِ الإضـافة الجـرُّ، فـأُجري عليهـا حكم معمولها وأمّا لام الأمر في قولك ليَفعلْ فإنما كُسِرت ليكون فرقاً بينهما و بين لام التأكيد ثم إنه لم يقع اللبس بين (لام) الأمر و لام الإضافة لاختصاص هذه بالأفعال و تلك بالأسماء و بين الكسرة و الجزم مناسبة من حيث أن هذا في الأفعال بإزاء صاحبه في الأسماء فلِـَما بيـنهما من المناسبة خُصَّت لام الأمر بالكسر دون التأكيد لأن هذه المناسبة بين الكـسرة و مقتـضى لام التأكيد مفقودة.
و أمـــا لام كـــي فهـــي لام الإضـــافة لأن قولـــك جئـــت لتقـــوم معنـــاه جئـــت
لقيامك.
و اختلفوا في اشتقاق الاسم فقال الكوفيون إنه مشتق من السِّمة يقال:
وَسَمهُ يسِمه وَسْما وسِمةً كقولهم، وعدا وعِدةً، قالوا: الـسمة العلامـة فكـأن الاسـم علامـة للمسمّى به ليميز عن غيره، وقال البصريون: الاسم مشتق من السُّمُو وهو العلو فكأن الاسم يعلو المسمى وقيل جعل الاسم تنويها على الدلالة على المعنى لأن المعنى تحت الاسم، و بعض النحويين قالوا إنما قيل اسم لرفع المصوّتِ بالكلمة للبيان عن المعنى.
و من قال من المتكلمين إن الاسم {هو} المسمى قال أصله من العلو وكأن المُسمَّى لما سَمَا عن حدِّ العَدَم إلى الوجود قيل له اسم.
و قال البصريون : أصل اسم (سِموٌ) ثم قالوا في جمعه: أسماء كقنوٍ و أقناء وحِنْو و أحناء فإذا قيل لهم فإذا كان أصله سِمْو فلمَ حُذِفت الواو قيـل اسـتثقالا ولم يحـذف مـن حنـو وقنـو لأن الاستعمال في الاسم أكثر منه في ِ القنوِ والحِنو والجرو وما أشبهها ثم سكنوا الـسين ً اسـتخفافاً لكثرة ما يجري ذلك على لسانهم، واجتُلِبتْ ألف الوصل لسكون السين لأن الابتداء بالساكن لا يمكن و ليكون عوضا مما ذهب منه فإذا قيل لهم فهلا تركـوا الـسين متحركـا حتـى لا يحتاج إلى زيادة الألف لأن حركة الحرف أخف من زيادة حرف آخـر قـالوا لـيس كـذلك لأن ألف الوصل ههنا قد يسقط في الإدراج فكان إثبات الحرف الذي يسقط كثيرا أخف من حركة السين الذي يلزم أبدا،واحتج الزّجّاج على أن الاسم مـشتق مـن الـسُّمُو بفـصلين أحدهما:
أنه لو كان أصل اسمٌ سمة لقيل في تصغيره وُسَيمٌ كما قال في تصغير وعد وعيـد و في تـصغير وَصْل وُصيل فلما قالوا في التصغير سُمي علم أنّ أصله سِمْوٌ وكان الواجب أن يقال سُمْيوٌ إلا أنهم استثقلوا الخروج من الياء التي هي أصل الكسرة إلى الواو التي هي أصل الضمة ألا ترى أنه لا يوجد في كلامهم فِعْلٌ.
و الثاني : قال إنا لم نجد ألف الوصل دخلت فيما يحذف فاء الفعل منه نحو عـدة و زنـة، و قـد اعترض عليه بعضهم فقال أصل اسم ِ سِموٌ ثم قلب فقيل وِسْمٌ ثم قلبت الواو ألفا فقالوا اسم وقلب الواو ألفا كثير في كلامهم كقولهم أُقِّتت بمعنى وُقِّتَتْ وغير ذلك وحُكـي عـن ثعلب أنه ذكر في باب التصغير في كتاب له في النحو في تصغير صلةٍ صُليَّة فهذا يـدل عـلى أنهم لا يردون إلى الأصل في باب التصغير . و االله أعلم.