الفصــــــــل الأول
المعطيات التوحيدية للذكربينالواقع والنص
المعطـــــى الأول
«مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ»
وحدة أشخاص وعقيدة وسلوك
أولا: التصاعد والتنازل بين المعرفة والتاريخ
حينما يطرح موضوع التأريخ للواقع المعرفي ونشأة علم التوحيد عند المسلمين وتطورها فإنها تتبادر الى الذهن عدة صور متجاذبة فيما بينها حول جدلية المعرفة والتاريخ، وهل المعرفة من حيث هي معرفة تخضع لظروف التاريخ بكل ثقله وتحولاته السياسية والإجتماعية والإقتصادية أم أن المعرفة الحقة تمثل ثباتا ومقاما لا حالا كما يعبر عنه الصوفية، بمصطلحاتهم، وهذا المقام لابد أن ينال منه السالك الى الله تعالى كيفما كان تموضعه التاريخي؟
إن تحديد المراحل التاريخية للمعرفة عند المسلمين كفيل بأن يعطي لنا الصورة الكاملة للمستوى المعرفي الذي عرفته الأمة الإسلامية، وذلك لأنه بقدر ما اتضحت لنا الصورة العلمية التي كان يتمتع بها هذا الجيل أو ذاك بقدر ما أمكننا تقييم المعرفة المحصل عليها داخل الساحة المعرفية عندنا نحن المسلمين، إما على شكل تنازل معرفي انحدر بانحدار الزمن وضعف بقدر بعده عن الأصل المؤصل لهذا العلم أو ذاك روحا أو نصا، وإما على شكل تصاعد معرفي بني على بذرته الأولى جهازه وهيكله العام الذي تشعب إليه من خلال النظر والإستدلال ومن خلال الجدل وتعاقب الأجيال.
وأعني بالتنازلي هنا والتصاعدي أي المستوى المعرفي والمفاهيمي الذي كان يتمتع به الجيل الأول من الأمة الإسلامية وخاصة عهد الصحابة والتابعين.
فهل المستوى المعرفي عند هذا الجيل من السلف كان أرفع مما وصل إليه وأطره الجيل اللاحق ومن ثم عرفت المعرفة وخاصة علم التوحيد بمفهومه الواسع انخفاظا في المستوى العمقي الذي كان يتمثل عند الصحابة رضوان الله عليهم، أم أن المستوى عندهم كان أدنى مما عرفه الجيل اللاحق الذي ألف وكتب، وفكر ونظر، واستدل وسبر الى غير ذلك من الإجراءات العلمية والفكرية العميقة والمعقدة والتي من خلالها حددوا تصوراتهم وتعاملوا بها مع النصوص القرآنية والحديثية لصياغة مفاهيم حول قضايا التوحيد، وخاصة فيما يتعلق بالصفات وما تفرع عنها من النظر والبحث في قضايا النفس والكون ؟.
أمام هذه التساؤلات المستقرأة من عدة آراء ومواقف متضاربة ما بين مؤيدة فكرة التنازل المعرفي ومؤيدة لفكرة التصاعد رأينا أنه لابد من عرض للواقع المعرفي والفترات الزمنية التي احتضنت هذا الواقع عند المسلمين، وعلى رأس هذه الفترات نخص بالحديث عهد الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
إذ تعد هذه المرحلة أهم محطة علمية ومعرفية في تاريخ البشرية جمعاء وذلك لأنها تمزج بين ذهبية المعرفة وذهبية التاريخ في آن واحد. لأنها تمثل مرحلة الرعيل الأول للأمة الإسلامية وتمثل الصورة النموذجية للإقتداء عند باقي الأجيال اللاحقة لها وذلك لأنها مرحلة الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم خاتم الرسل والأنبياء والمبعوث رحمة للعالمين.
وهؤلاء الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم قد أعطوا كليتهم له وطرحوا إرادتهم أمام إرادته وإرشاداتهم بإرشاداته وتأويلاتهم وتفسيراتهم أمام تأويلاته وتبيانه. وقد وصفهم الله تعالى أعظم وصف وأجمله وهم في حضرة هذا الرسول العظيم يلبسون حلتهـم المعرفية المتميزة ويتصدرون تاريخهم الذهبي الخالد بقوله تعالى : «مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ ۚ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا». صدق الله العظيم.
فكانت هذه الآية الكريمة جامعة مانعة، وضامة في أحضانها الصورة الكاملة للأمة الإسلامية وهي في قمتها المعرفية والسلوكية والتاريخية، وذلك لأنها أعطت تقسيما جوهريا لسر هذا التصدر المعرفي الذي ميز عهد الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فمحمد رسول الله شخصية متميزة وعين ساقية وشمس منيرة وباعثة للحيوية ومركز قوي للبث والإرسال.
«والذين معه» أشخاص عطاش وأزهار متجهة بكليتها حيث اتجهت هذه الشمس لإستمداد الحيوية، وأجهزة صادقة وجاهزة للإستقبال والعمل.
ومن هذه الخصوصيات التي ميزت شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم وشخصية أصحابه تم البث المباشر وتم الإستقبال الجيد. وانعكست الصورة، على الصورة حتى أضحى «محمد رسول الله» صورة في صحابته وصحابته نسخة من صورته. فكانت النتيجة أن اتحد الباث والمستقبل في وحدة تصورية وعملية جمعتهما في موجة واحدة وهي قول الله تعالى: «أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم».
إذن هي وحدة الأشخاص تقتسم فيما بينها وحدة العقيدة ووحدة السلوك. وتعيش هذه العقيدة وهذا السلوك معايشة وجدانية وشعورية، بل إنها تنتقل بهذه العقيدة والسلوك من مستوى السماع والآلية الى مستوى الشهود والتكيف.
وهنا يكمن سر العمق المعرفي عند الصحابة، ويتضح جليا هل كانت مرحلة الصحابة تمثل مرحلة القمة العقائدية والدراية الراسخة بعلم التوحيد أم أن مرحلتهم كانت مجرد تلق حرفي للنصوص وامتثال للأوامر دون وعي أو إدراك لما تتضمنه تلك النصوص من معان وأسرار وظواهر وبواطن وحدود ومطالع ؟ وهل أن الصحابة كانوا يمارسون أداة معرفية متميزة ويتعاملون مع واقع معرفي متميز ومرجع خاص لا يخطىء ولا يلهم إلا بالصواب الأصوب وبالثمين الأثمن؟
إن التلقين النبوي للصحابة رضي الله عنهم كانت له خصوصية تجمع بين النص وهو الخطاب المفيد بالمعنى عن طريق الألفاظ والتركيب الإعجازي لليقين والتصديق به عقيدة وشريعة، جملة وتفصيلا، وبين الشخص النبوي وهو الروح المجسد للنص في أبعاده وغاياته وإيحاءاته.
وبين النص والشخص النبوي يقف الصحابي مستقبلا لفظ النص بالسماع وروحه عن طريق إيحاء الشخص النبوي بالمشاهدة أو الشهود، -حسب تعبير الصوفية-. ولهذا فإن الصحابي كان لايحتاج إلى زيادة استفسار ولا الى محاولة تأويل لأن تأويل الخبر وقوعه، ووقوعه شهوده. وبما أنه غارق في عين الشهود أو الشهود العيني فإنه لا يحتاج إلى شهود ما هو مشهود. ومن هنا كان مستثقلا أن يستفسر الشخص عن الواضحات وذلك لأن توضيح الواضحات لا يزيدها إلا غموضاً فما بالك بتوضيح المشهودات.
ولكي يستقيم الكلام على أسس مستدل عليها ولا يوصف بالذاتية والأشواقيات، أستعرض بعض النصوص الدالة على وجود هذه الخصوصية المعرفية في عهد الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم.
فمن بين النصوص المشيرة الى شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بخصائصها المتميزة نجد هذا المزج بين الدعوة والداعية مما يفسر سر نجاح الرسول في نشر دعوته وذلك من خلال هذا الخطاب البليغ من قول الله تعالى: «يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا * وَدَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا». وهو بهذه الصفة ينقل مدعويه من مرتبة السماع الى الشهود بواسطة أنه كما وصفه ربه سبحانه وتعالى:«سِرَاجًا مُّنِيرًا» وأن هذه الإنارة ليست ذاتية لهذا الرسول الكريم وإنما سرها يكمن في أنه «دَاعِيًا إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ». فالإذن الإلهي هو محور هذه الإنارة وهو الحبل الواصل بين الدعوة والداعية والموحد بينهما حتى أعطى نماذج إنسانية ترتبت عن هذه الوحدة جمعت بدورها بين وحدة العقيدة ووحدة السلوك. وهذه العقيدة وهذا السلوك لا يقبلان التأويل ولا التغيير وإنما كل من تمكن منهما أضحى متجوهرا بهما، وهذا هو وجه التوحيد والإيمان الصادق عند الرعيل الأول من الأمة الإسلامية. ومن هنا جاء الخطاب الإلهي واصفا حقيقة هذا التوحيد المنشود على مستوى الواقع الممارس وذلك في قول الله تعالى :«مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا» وكيف يبدلون ما شاهدوه وفنوا في مشاهدته حتى أنهم كانوا يشتكون كما يشتكي الرضيع من نقص لبن أمه بالصراخ والتقلب، وذلك كلما شعروا بفتور أو ظرفية طارئة على مستوى هذا الشهود المعرفي مما نجد نماذج له واضحة كل الوضوح ومزكية بصورة موضوعية ما صبونا الى التعبير عنه من القول بأثر الشخص النبوي وتميزه وانعكاسه الروحي على صحابته وهم في حضرته وملازمته.