آخر الأخبار

جاري التحميل ...

البعد التوحيدي للذكر في الإسلام (الوسيلة والغاية) (3)

فمن بين هذه النماذج المشار إليها نجد هذا الحديث الصحيح المصور للواقع المعرفي عند الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم. 
فعن أبي حنظلة بن الربيع الأسيدي أحد كتاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: لقيني أبو بكر رضي الله عنه فقال كيف أنت ياحنظلة ؟ قلت نافق حنظلة، قال سبحان الله ما تقول ؟ قلت نكون عند رسول الله صلى الله عليه وسلم يذكرنا بالجنة والنار كأنا رأي العين فإذا خرجنا من عندرسول الله صلى الله عليه وسلم عافسنا الازواج والاولاد والضيعات نسينا كثيرا. قال أبو بكر رضي الله عنه : « فوالله إنا لنلقى مثل هذا» فانطلقت أنا وابو بكر حتى دخلنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت نافق حنظلة يا رسول الله نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة كأنا رأي عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد و الضيعات نسينا كثيرا فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي ، وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ ، وَلَكِنْ يَا حَنْظَلَةُ سَاعَةً وَسَاعَةً ثَلَاثَ مَرَّاتٍ». رواه مسلم.

وهذا الحديث يؤكد لنا عمقية المعرفة عند الصحابة بكل صورها الموضوعية ويؤسس مبادئ للتحصيل المعرفي لا يتم على صـورتـه السليمـة إلا بها ومن هذه المبادئ نجد :

1) الملاحظة الداخلية والإستبطان : وتتجلى هذه الملاحظة في ذلك التشكي الذي عبر به حنظلة بقوله «نافق حنظلة» مميزا بذلك بين واقعه الشعوري وهو في حضرة الرسول صلى الله عليه وسلم. والحالة التي يشعر بها وهو بعيد عن هذه الحضرة. وأمام هذه الموازنة وجد أن المستوى يتفاوت شعوريا بين الحضور والغياب. فظن إذاك حنظلة أن هذه الحالة مرضية ينبغي اللجوء بسببها الى الطبيب.

2) وحدة الشعور : وهذا يعني أن المعرفة التي كان يتمتع بها الصحابة وهم بحضرة الرسول ليست مجرد تصورات خيالية أو انطباعات ذاتية غير ذات مقياس عام. وإنما هي معرفة ذاتية ومشتركة بين السالكين للمنهج الذي لقنه الرسول لصحابته، وتتجلى هذه الوحدة الشعورية المعرفية في قول أبي بكر رضي الله عنه « فوالله إنا لنلقى مثل هذا».

3) اعتماد المرجع الامين : وهذا العنصر أهم وسيلة للتحصيل المعرفي عند الصحابة رضي الله عنهم. وقد كان بإمكان أبي بكر أن يفسر لحنظلة حالته التي يشتكي منها بشتى التحليلات والمبررات يختلط فيها الصواب بالخطأ. لكن أمانته العلمية فرضت عليه تفويض هذا التفسير إلى الأستاذ المختص في الميدان وهذا يعطي لنا نموذجا غاية في الأدب والاخلاق العلمية، فكان إجراء أبي بكر هو اللجوء الى المرجع الامين وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم يعبر عن ذلك قول حنظلة «فانطلقت أنا وأبو بكر حتى دخلنا على رسـول الله صلى الله عليه وسلم ...».

4) الإنعكاس المعرفي : وهذه أرقى درجات التلقين والتحصيل، إذ أنه بقدر ما كانت شخصية الأستاذ قوية وبقدر ما كان طلب التلميذ وتصديقه صحيحا لأستاذه. أمكن نقل المعرفة إليه كما هي على مستوى ما يسميه الصوفية بالشهود. وبما أن الرسول صلى الله عليه وسلم كان يعلم الحقائق مشاهدة بالقلب والحس فإنه استطاع ان يلقن أصحابه هذه المعارف على مستوى المشاهدة أو ما يقرب منها، ويتجلى ذلك في قول حنظلة وهو بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم «كأنا رأي العين».

وعند هذه المسألة الدقيقة يطرح سؤال وهو: بأي أداة ينبغي أن يتعامل المسلمون مع كلام الله ورسوله. هل أداة ما يسمى بالقلب أم ما يسمى بالعقل؟ فإذا قيل بالعقل فإن هذه الاحوال التي عبر عنها الصحابة رضي الله عنهم وهذه المشاعر التي صرحوا بها ليست من خصوصيات العقل. إذ العقل ليس سوى مصدر أحكام وصفية جامدة من كل شعور أو إحساس بقرب أو بعد بل إنه يستمد أحكامه بحسب ما يعطيه إياه القرب والبعد من مواصفات فيحكم بحسبها. ومن هنا كانت أحكامه تحتمل الخطأ والصواب على حد سواء بحسب ما يتحصل عليه من صدقات من الخارج الحسي أو الداخل الباطني. ومن هنا فإن وظيفته ليست سوى وزن المعرفة بحسب معطياتها ومصادرها.

أما إذا قيل بالقلب، فالقلب محل الشعور والإحساس والإنشراح والإنعكاس المعرفي، وهو محل العقد والثبات. وهو بهذه المواصفات يشخص المعرفة تشخيصا بحسب توجهه نحوها، وبنقلها من التصور الخيالي إلى الشعور الوجداني، بل إنه يصبح المهد للتصور الخيالي والذهني بحسب صفائه ونوعية توجهه فيوظف العقل بكل أحكامه لخدمة مصالحه. ويتجلى ذلك في قول الله تعالى : « أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها».
إذ التدبر ونتائجه من حيث الوظيفة العقلية رهين بالتوجه القلبي وإرادته في التلقي. وحيث أن القلوب مقفلة فإن العقول لاتجدي في التحصيل المعــرفي وخــاصة معرفة الله وتقوية الإيمان به وبرسوله وبمعاني كتابه موضوع التدبر. 

وللحسم في المسألة حول أي الأداة التي يجب إعطاؤها الأسبقية في التعامل مع الدين أطرح سؤالا وهو هل الوحي الذي أنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم تلقاه بقلبه أم بعقله؟.
والإجابة سريعة وحاسمة عن هذا التساؤل وهو أن القرآن نزل على قلبه بدليل قول الله تعالى : «وَإِنَّهُ لَتَنزِيلُ رَبِّ الْعَالَمِينَ * نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ * عَلَىٰ قَلْبِكَ لِتَكُونَمِنَ الْمُنذِرِينَ».

ومن هنا فإن الطريق الأسلم والأوفق لما سلكه السلف الصالح في تعاملهم مع الرسول صلى الله عليه وسلم وتلقيهم عنه كلام الله تعالى هو التلقي بالقلب من القلب لكي يصح الانعكاس وتتضح الصورة الأصلية اتضاحا كاملا . أما إذا تعاملنا مع الإسلام بمجرد العقل الواصف والمفسر، فإننا نكون كمن يريد أن يستعمل جهاز المذياع لتلقي البث التلفزي. إذ أنه لايحصل سوى على السماع دون الصورة. وشتان ما بين السماع وحده وبين السماع والصورة في الدلالة على الحقيقة!

ولتحقيق هذا التلقي القلبي يلزم عدة إجراءات نصت عليها الشريعة الإسلامية قرآنا وحديثا نبويا. من بينها قول الله تعالى : «قَدْ أَفْلَحَ مَن تَزَكَّىٰ * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّىٰ». وغير ذلك من الآيات الدالة على أغذية القلب ومقوياته.

وإذا كان هذا هو مستوى المعرفة ومبادئها عند الصحابة رضي الله عنهم، فإنهم كانوا بذلك يمثلون وحدة أشخاص وعقيدة وسلوك، إذ كانوا أعرف بمعاني القرآن والسنة النبوية وأحراهم بالوقوف على كنهها ودرك أسرارها، إذ هم الذين شاهدوا من النبي صلى الله عيله وسلم الوحي والتنزيل وعاصروه وصاحبوه بل لازموه آناء الليل والنهار مستنيرين لفهم معاني كلامه وتلقيه بالقبول للعمل به أولا وللنقل إلى من بعدهم ثانيا وللتقرب إلى الله سبحانه وتعالى بسماعه وحفظه ونشره، فكانوا أعرف بمواطن العلاج لمن في قلبه ريب أو شك إذ كانت لهم وسائل علمية تعتمد على النص كنص وتوظف هذا النص توظيفا مناسبا لنوعية الضرورة ونوعية المرض الذي يجب علاجه. كما أنه كانت لهم وسائل عملية إقناعية تتلخص في الكف الباطني عن الجري الذهني وراء بعض المسائل المتشابهة والسكوت عن الخوض فيها أو إسكات من يريد إثارة ما لا مدعاة إليه وما يخشى من إثارته التشويش على عقائد الناس.

ومن هنا فإن المدرسة المحمدية مثلت مرحلة القمة المعرفية بكل صورها ومعانيها وبالتالي فاللاحقون بعد هذه المدرسة يمثلون عدا تنازليا للواقع المعرفي الذي طبع عهد السابقين وخاصة عهد الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم، إلا أن اللاحقين بإمكانهم اختراق المرحلة التاريخية واستحضار المرحلة المعرفية التي كان عليها الصحابة وهم بحضرة الرسول صلى الله عليه وسلم إذا سلكوا نفس النهج ووظفوا نفس الأدوات التي استخدمها الصحابة وهم في تتلمذهم على رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهذا المنهج لن يكون سوى منهج روحي في الأساس وهو المرتكز على التواصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم بأداة روحية هي عينها التي وظفها الصحابة رضي الله عنهم حتى تسنى لهم أن يحافظوا على وحدة شعورهم وهم بحضرة رسول الله صلى الله عليه وسلم. وهي ما تضمنها حديث حنظلة عند تحديد النبي صلى الله عليه وسلم الوسيلة لضمان استمرارية ذلك الشعور بقوله:«وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ إِنْ لَوْ تَدُومُونَ عَلَى مَا تَكُونُونَ عِنْدِي ، وَفِي الذِّكْرِ لَصَافَحَتْكُمُ الْمَلَائِكَةُ عَلَى فُرُشِكُمْ وَفِي طُرُقِكُمْ..». وهذا يضمن تحقيق الأسوة الحسنة برسول الله صلى الله عليه وسلم ظاهرا وباطنا كما سنبينه عند حديثنا عن مفهوم الذكر وعلاقته بالائتساء من خلال تفسيرنا لقول الله تعالى : «قَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا» صدق الله العظيم.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية