وكذلك يقولون : المعاملة، والمنازلة، والمواصلة، والمجاهدة، يريدون بالمعاملة السلوك، وبالمنازلة رفع الحجاب والكشف، وبالمواصلة المعرفة والمشاهدة.
ثم إن مقامات المجاهدة المطلوب اكتسابها مثل : التوبة، والتوكل، والورع والزهد، وسائرها يختلف عندهم تفسيرها باختلاف الباعث على المجاهدة من تقوى واستقامة، أو عرفان، كالتوبة مثلاً، فإن توبة المبتدئ مغايرة لتوبة المنتهي. قال ذو الون : (توبة العوامّ من الذنوب، وتوبة الخواصّ من الغفلة، وتوبة العارفين مما سوى الله). وفي الحديث : (يا أيُّها الناس توبوا فإني أتوب إلى الله في اليوم مائة مرةٍ).
وكذا التوكل أيضا: فتوكل المؤمنين سكون إلى وعد الله، وتوكل الخواصّ اكتفاء بعلم الله، وتوكل العارفين رضا بحكم الله.
وكذلك الورع : فورَعُ العوام تَرْك الشبهات، وورع الخواص ترك الحركات، وورع العارفين أن لا يدخل قلبه سوى الله.
وكذا الزهد : فزهد العوام ترك الحرام، وزهد الخواص ترك الفضول من الحلال، وزهد العارفين ترك ما يشغل العبد عن الله.
وكذلك التوحيد، والشكر، واليقين، والصبر، وسائرها، تختلف تفاسيرها باختلاف الباعث عن المجاهدة، حسبما استقريناه من كتبهم، ولهم مع ذلك آداب خاصة بهم، وسبيلٌ لتعليم هذه المجاهدة مقصور عليهم لبعدهم عن الجمهور، لاسيما مع فَشو المخالفة والخروج عن الاستقامة، وكذلك قد يصرح العارف بما يطير له الجمهور إنكارا، وتضيق حواصلهم عن ملتقطه، فيحتاج إلى بيانٍ يخرج عن التهمة كقول بعضهم : إني أقول يا الله، يا ربّ، فأجده أثقل عليَّ من الجبال، لأن النداء إنما يكون من وراء حجاب، وهل رأيت جليساً ينادي جليسه ! فلولا هذا التعليل لكان هذا القول مردوداً وقائله متَّهماً، وكذلك قولهم في أحكام الخلوة، والتزام الذكر لطالب المشاهدة، وأن لا يشتغل المريد بالأوراد، ولا بالتلاوة، بل يقتصر على الفرض وملازمة الذكر، لأن التلاوة تشتمل على الأحكام، والقصص، فينتشر القلب في فهم معانيها، والقصد جمعه بالذكر الواحد لاستجلاء نور المشاهدة من مذكوره.
فلولا هذا التعليل لكان اشتراط الأوراد والتلاوة منكر، لكنه ترك واجب لأوحب منه، وفرض لأعلى رتبة منه في الفرضية باعتبار الباعث على المجاهدة فاقتضى ذلك كله اصطلاحاً مخصوصاً من شرح الأسماء التي تواضعوا عليها للمفاوضة بينهم، وبيان ما اختص بمجاهدتهم من الآداب والأحكام، وشرح ما اختلف تفسيره من مقاماتها، وكيفية تعليم المجاهدة، وإيضاح ما تشابه من أقوالهم وإطلاقاتهم، فكان ذلك علماً مخصوصاً يسمّى علم التصوُّف.