الفصل الرابع : واما التوكل فإنه للعوام
فصل وأما التوكل فإنه للعوام أيضا لأنه كلتك أمرك إلى مولاك والتجاؤك لى علمه ورأفته ليدبر أمرك ويكفيك همك، وهذا في طريق الخواص نقص وعمى عن الكفاية، ورجوع إلى الأسباب، لأنك رفضت الأسباب ووقفت مع التوكل، فصار عوضا عن تلك الأسباب، فكأنك معلق بما رفضته من حيث معتقدك الانفصال عنه.
والتوكل عند القوم هو التوكل في تخليص القلب عن علة التوكل، وهو أن يعلم أن الله تعالى لم يترك أمرا مهملا بل فرغ عن الاشياء وقدرها، وإن اختلف منها شيء في المعقول أو تشوش في المحسوس أو اضطرب في المعهود فهو المدبر، وشأنه سوق المقادير إلى المواقيت.
فالمتوكل من أراح نفسه عن كد النظر ومطالعة السبب، سكونا إلى ما سبق من القسمة مع استواء الحالين عنده وهو أن يعلم أن الطلب لا يجمع التوكل لا يمنع، إذ الله تعالى بالغ أمره.
ومتى طالع بتوكله عوضا كان توكله مدخولا وقصده معلولا. فإذا خلص من رق الأسباب ولم يلاحظ في توكله سوى خالص حق الله تعالى عليه كفاه الله كل مهم.
كما حكي أن موسى عليه السلام انتهى ذات يوم بأغنامه إلى واد كثير الذئاب، وكان قد بلغ به التعب غاية، فبقي متحيرا إن اشتغل بحفظ الأغنام عجز عن ذلك لغلبة النوم عليه والتعب. وإن هو طلب الراحة والسكون بالنوم عاثت الذئاب في الأغنام. فرمق بطرفه نحو السماء وقال : (أحاط علمك ونفذت إرادتك وسبق تقديرك)، ثم وضع رأسه فنام. فلما استيقظ وجد ذئبا واضعا عاه على عاتقه وهو يرعى الأغنام فتعجب موسى عليه السلام من ذلك، فأوحى الله عز وجل إليه : (يا موسى كن لي كما أريد أكن لك كما تريد).
وحكي أن الجراد وقع على زرع كان لرابعة العدوية، فلما جاءها الخبر خرجت فرأت الجراد قد ركبه، فرمقت إليها بطرفها نحو السماء وقالت : (إلهي رزقي قد تلفت به، فإن شئت فاطعم زرعي هذا أعداءُك)، وإن شئت فاطعمه أولياءك، فطار الجراد جميعه عنه، وكما قيل :
إذا شئت أن أرض وان ترضى وتملكي زمامي ما عشنا معا وعنانيا
ألا فارمقي الدنيا بعيني واسمعي بأذني فيها وانطقي بلسانيا