قال الله سبحانه وتعالى : { أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ}، فالأولياء جمع ولي، وهو كما قال المحقق ابن حجر المكِّي : فعيل بمعنى فاعل؛ لأنه والى الله تعالى ورسوله، فلم يخرج عن أمرهما ونهيهما إلى ما يغضبهما، أو مفعول؛ لأن الله تعالى والاه بخوارق نعمِه ورسوله والاه بمزيد إمداده وكرمه، وضابط الولي أنه المداوم على فضلِ الطاعات، واجتناب المعاصي، المُعرض عن الانهماك في اللذات، كذا قالوه.
ويتجه أن هذا ضابط الولي الكامل، وأن أصل الولاية يحصل لمن وُجدت فيه صفة العدالة الباطنة بالشروط المذكورة عند الفقهاء.
وهذا من فضل الله تعالى كثيرٌ في هذه الأمّة في كل زمانٍ ببركة نبيِّنا محمد سيد الأكوان صلى الله عليه وسلم في كل حينٍ وآنٍ.
قال ربنا سبحانه وتعالى : {كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ} [آل عمران : 110] قال الإمام ناصر الدين البيضاوي : دلَّت الآية على خيرتهم فيما مضى، ولم تدل على انقطاعٍ وطردٍ.
وقال نبينا صلى الله عليه وسلم : (لا يزالُ من أمَّتي أمَّةً قائمةٌ بأمرِ الله لا يضرُّهم مَنْ خذلهم ولا مَنْ خالفهم حتَّى يأتي أمرُ الله وهم على ذلك) رواه البخاري ومسلم.
وقال صلى الله عليه وسلم : (لا تسبُّوا أهلَ الشام؛ فإنَّ فيهم الأبدال) ذكره السيوطي في "الجامع الصغير" وزاد الشارح المناوي : وفي رواية : (وبهِم تُنصرون وبهِم تُرزقون)، قال رحمه الله تعالى : وفيه ردٌّ على من أنكر وجود الأبدال كابن تيمية انتهى.
وفي كتاب "الأبدال" عن أنس رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (البدلاءُ أربعون).
وعن الحسن البصري رحمه الله تعالى أنه قال : (لولا البدلاء لخسف بالأرض)، وخرَّج السمرقندي فيه قال : لما قُبض النبي صلى الله عليه وسلم شَكت الأرض إلى ربِّها عز وجل أنه ما بقي يمشي عليَّ نبيّ من الأنبياء إلى يوم القيامة، فأوحى الله تبارك وتعالى إليها أنِّي جاعلٌ مِنْ هذه الأمة رجالاً قلوبهم كقلوب الأنبياء.
قال السمرقندي : والقطب هو المقدم عليه. انتهى.
قال العلامة ابن حجر في شرح "الهمزية" : إن الله تعالى خصَّ هذه الأمة في التوراة بخصائص لم يؤتها لغيرهم تكرمةٌ لنبيهم، وزيادةٌ في شرفه، ثم عدَّ منها إلى أن قال : وأن فيهم أقطاباً، وأوتاداً، ونقباءً، ونجباءً، وأبدالاً : أي لا ينقطعون.
قال الشيخ أحمد الشهير بالأعرج في كتاب مواعظه : وأخفى الله تعالى وليَّه بين الناس ليعظِّموا الكل، كما أخفى الاسم الأعظم ليعظِّموا كل الأسماء، والصلاة الوسطى؛ ليحافظوا على كل صلاةٍ، وساعة الإجابة في الجمعة؛ ليداوموا على الدعاء في كل الجمعة، وليلة القدر؛ ليتجرَّدوا عن الكل، ووقت الموت؛ ليكون المكلَّف على احتياطٍ في جميع الأوقات.
وكان الشيخ محيي الدين بن عربي قُدس سره يقول : ومن أين لعامَّة الناس أن يعلموا أسرار الحق تعالى في خواص عباده من الأولياء، وشروق نوره في قلوبهم، ولذلك لم يجعلهم إلا مستورين عن غالب خلقه؛ لجلالتهم عنده، ولو كانوا ظاهرين فيما بينهم وآذاهم إنسانٌ لكان قد بارزَ الحق تعالى بالمحاربة، فأهلكه الله تعالى، فكان سترهم على الخلق شفقةً على من آذاهم.
ومن ظهر من الأولياء للخلق إنما ظهر لهم من حيث ظاهر علمه ودلالته، وأمّا من حيث سرِّ ولايته فهو باطنٌ لم يزل.
وكان الشيخ أبو الحسن الشاذلي قُدس سره يقول : لكل وليٍّ سترٌ أو أستارٌ نظير سبعين حجاباً التي وردت في حق الحق سبحانه وتعالى، حتى أنه لم يعرف إلا من ورائها فكذلك الولي.
فمنهم : من يكون ستره بالأسباب.
ومنهم : من يكون ستره بظهور العزة والسطوة والقهر على حسب ما يتجلى الحق بقلبه فيقول: الناس حاشا أن يكون هذا ولياً لله تعالى، وهو فى هذه النفس أو التعاظم؛ وذلك لأن الحق تعالى إذا تجلى في قلب العبد بصفة القهر كان قهَّاراً، أو بصفة الانتقام كان منتقماً، أو بصفة الرحمة كان رحيماً مُشفقاً وهكذا، ثم لا يصحب ذلك الوليّ الذي ظهر بمظهر العزّ والسطوة والانتقام من المريدين إلا من محق الله تعالى نفسه وهواه ولم يزل في كل عصر وأوان أولياء وعلماء تذلهم ملوك الزمان؛ ويعاملونهم بالسّمع والطّاعة والاذعان. ومنهم : من يكون ستره بالاشتغال بالعلم الظاهر والجمود على ظاهر النّقول حتى لا تكاد تخرجه عن آحاد طلبة العلم القاصرين.
ومنهم : من يكون ستره بالمزاحمة على الدّنيا وتظاهره بحبّ الرئاسة والملابس الفاخرة وهو على قدم عظيم في الباطن.
ومنهم : من يكون ستره كثرة التردّد إلى الملوك والأغنياء وسؤالهم الدنيا وغير ذلك، فيقول القصير الفهم والإدراك : لو كان هذا وليًّا لله ما تردّد إلى هؤلاء الأمراء والأغنياء، أو لأيّ شيء ما جلس في زاويته أو بيته يشتغل بعبادة ربّه، ورحم الله الأولياء الماضين الذين كانوا في الزمن الماضي، ونحو ذلك من ألفاظ الجور، ولو استبرء هذا القائل لدينه وعرضه لتوقّف وتبصّر في أمر هؤلاء الأولياء والعلماء قبل أن يستنقد عليهم؛ فربّما كان تردّدهم لكشف ضرر أو إخلاص مظلوم من سجن، أو قضاء حاجة مثلاً، فيجب عليهم الدخول لتلك المصالح، ويحرم عليهم التخلف عنهم لاسيما إذا رأينا المتردد من الأولياء والعلماء زاهداً فيما في أيديهم، متعززاً بعزِّ الإيمان وقت مجالستهم، آمراً لهم بالمعروف، وناهياً لهم عن المنكر، لا يقبل هدية ممن شفع له عندهم، فإن هذا من المحسنين ولا يجوز الاعتراض عليه بسبب ذلك.
وقال الشيخ محيي الدين بن عربي قُدس سره : ومما يفتح باب قلّة الاعتقاد في أولياء الله تعالى وقوع زلة ممن تزيّا بزيِّهم، وانتسب إلى مثل طريقهم والوقوف مع ذلك من أكبر القواطع عند الله تعالى.
قال الله تعالى : {وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ}، فمن أين يلزم من إساءة واحدٍ أن يكون جميع أهل حرفته كذلك ؟! ما هذا إلا محض عنادٍ، وتعصب بباطل.
قال الشيخ عبد الوهاب الشعراني رحمه الله تعالى :
استتار الرجال في كل عصر تحت سوء الظنون قدر جليل
ما يضرّ الهلال في حندس اللي ل سواد السّحاب وهو جميل
وقال رحمه الله تعالى : من أشدِّ حجابٍ عن معرفة أولياء الله تعالى شهود المماثلة والمشاكلة، وهو حجاب عظيم قد حجب الله تعالى به الأكثرين من الأولين والآخرين، كما قال تعالى حاكيا عن قوم : {وَقَالُوا مَالِ هَٰذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعَامَ وَيَمْشِي فِي الْأَسْوَاقِ}{مَا هَذَا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَيَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ} {فَقَالُوا أَبَشَرًا مِّنَّا وَاحِدًا نَّتَّبِعُهُ}، ونحو ذلك، ولكن إذا أراد الله تبارك وتعالى أن يُعرّف عبداً من عباده بوليٍّ من أولياءه ليأخد عنه الأدب ويقتدي به في الأخلاق طوى عنه شهود بشريّته، وأشهد وجه الخصوصية فيه، فيعتقده بال شكٍّ، ويحبُّه أشد المحبَّة، وأكثر الناس الذين يصحبون الأولياء لا يشهدون منهم إلا وجه البشرية، فلذلك قلَّ نفعهم، وعاشوا عمرهم كله معهم ولم ينتفعوا منهم يشيءٍ.
قال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : ولقد ابتلى الله هذه الطائفة الشريفة بالخلق خصوصاً أهل الجدل، فقل أن تجد منهم أحداً شرح الله صرده للتصديق بوليٍّ معين، بل يقول لك: نعم، إن لله تعالى أولياء وأصفياء موجودين، ولكن أين هم ؟ فلا تذكر لهم أحداً، إلا أخذ يدفعه، ويردّ خصوصية الله تعالى له، ويطلق اللسان على كونه غير وليّ لله تعالى، وغاب عنه أن الولي لا يَعرف صفاته إلا الأولياء، فمن أين لغير الولي نفي الولاية عن إنسان ؟ ما ذاك إلا محض تعصب، كما نرى في زماننا هذا من إنكار ابن تيمية علينا وعلى إخواننا العارفين.
فاحذر يا أخي ممن كان هذا وصفه وفرَّ من مجالسته فرارك من السبع الضاري، جعلنا الله وإيّاكم من المصدقين لأوليائه، المؤمنين بكراماتهم بمنِّه وكرمه، آمين .