الباب الثاني :
في آداب المريد في نفسه واستقصاء جميع ذلك يعسرُ ضبطه ولكن نذكر منها جملاً صالحة.
منها : أن يكون الغالب عليه الصمت وقلة الكلام، فلا يتكلم إلّا عن ضرورة مثل أن يسأله رفيقه عن حاجة أو يًرِدَ عليه غريب لا يعرفه أحدا فيكلمه على وجه الملاطفة ويَقْبِل عليه بكليته قائماً بحقِّ الضيف، وقد كان سيدي يوسف العجمي يأمر تلامذته بقول (لا إله إلا أنت يا حي يا قيوم) كل يوم أربعين مرَّةً صباحاً ومساءً جبراً لما يحصل من موت القلب باللغو والمكروهات.
ومنها : أن لا يقطع الذكر إذا افتتحه حتى يحصل له الغيبة عن الحاضرين وجميع الأكوان ويحضر مع الحق تعالى، وذلك لأنّ الفتح الإلهي لا يكون قط إلّا لمن غاب عن إحساسه لأنه حينئذٍ استحقَّ دخول الحضرة الإلهية، وأمّا مَن لم يحصل له غيبة فذكره حسنات لا درجات كذكر العجائز اللاتي قطعنَ الولادة وصِرنَ يسعلنا فوق قبة الفرن، فما دام يشهد الكائنات فهو محجوب وهي كلها فقيرة إلى الله تسأل كما تسأل وليس عندها شيء من الخلع تخلعه عليه فافهم. وقد رأى سيدي إبراهيم المبتولي رضي الله عنه شابًّا كثير العبادة والاجتهاد وهو مع ذلك ناقص الدرجات فقال له سيّد إبراهيم : يا ولدي مالي أراك كثير الأعمال ناقص الدرجات ؟ فقال : يا سيدي لا أدري، فقال سيدي إبراهيم : إنّما جاءكَ النقص لعدم مراعاتك لِآداب الأعمال الباطنة، فقال : يا سيدي صدقتَ. قلتُ ولذلك عُدِمَ أهلُ الجدال من الفقهاء والعبّاد الترقي في درجات الأولياء وحَمدوا على ما فهموا من ظواهر النُّقول ولم يتعدُّوا إلى ما وضعه الشارع في طيِّها من الزواجر والقوارع، فلم يزدادوا بكثرة العلم وتلاوة القرآن زهداً في الدنيا ولا إقبالاً على رتبهم، وماتوا وأحدهم يودُّ أن لو كان عنده واديان من ذهب، بل يود أن لو زاد له رغيف آخر زائداً على خبزه، فافهم يا ولدي، فإنَّ السالك على يدي الفقراء كالطيار إلى حضرة القرب، والسالك من غير طريقهم كالمقعد الذي يسحف تارة ويسكن أخرى مع بعد الطريق والله أعلم.
ومنها : أن يكون قميصه قصيراً نظيفاً واسع الأكمام، وأن يكون طرحا أو مصبوغا كله ولا يلبس الأبيض إلا يوم الجمعة فقط، لأنَّ المريد واجب عليه التجريد وترك الدنيا بحذافيرها، والأبيض يحتاج إلى غسله بالصَّابون ونحوه فيحوجه إلى ثمنه فيحتاج إلى الكسب والحرفة وسؤال الناس فينقطع توجهه إلى الله تعالى ويتوجه إلى الدنيا، وكل شيء يهواه المريد يقطعه عن الله عزَّ وجلَّ، فليصبر على وسخ الثياب حتى يزول وسخ قلبه، فإذا وسخ قلبه وكمل حاله طولب بنظافة الثياب الظاهرة ليشاكل بذلك باطنه ويعمل بالعدل في ذلك، ومتى اشتغل المريد بنظافة ظاهره ولبس الأصواف والجوخ والمطرزات لا يفلح ولو كان شيخه من أكبر المُسَلِّكين فاعلم ذلك.
فينبغي للمريد أن يجمع أهوية الدنيا بحذافيرها فيجعلها عقدة واحدة ويطرحها في بحر الإياس، فإن كان ولا بدّ له من ملابس الدنيا فليلبس الوسط، لا رقيقا يصف البشرة ولا غليظا كالخيش، وكذلك لا ينبغي لمريد أن يلبس الثياب التي فيها خطوط حمر وخضر كالتي يلبسها أهل الرعونة والفسق عملا يُعرِّف الفقراء في ذلك، فأنَّ المريد كلما تلبس بصفات القوم كلما قرب من أحوالهم، حتى أنَّ المريد الصادق يَسرق جميع أحوالهم في مدة يسيرة، وكان السلف يَستحِبُّون أن يكون قميص أحدهم ذي جيب، ويكرهون السراويل الواسعة القنان، وأن يجعل علَما على ثوبه من غير تخرق إلا أن يكون على سبيل التبرك بصاحب ذلك اللون كالأحمدية والرفاعية والقادرية، وقد رأيت في بعض الكتب أن أصل هذه الخرق أن رسول الله صلى الله عليه وسلم أخرج له جبريل صندوقا ففتحه فإذا فيه خرق خضر وحمر وسود فقال : ما هذا يا جبريل ؟ فقال هذه خرق ستكون لخواص أمتك. ورأيت هذا الحديث متصل السند من صاحب الكتاب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم قال ورواه البزار أيضا بإسناد لابأس به. والله أعلم.