آخر الأخبار

جاري التحميل ...

مفتاح الفلاح ومصباح الأرواح في ذكر الله الكريم الفتاح -10

فصل في آداب الكر

الذكر له آدابٌ سابقة، وآدابٌ لاحقة وآدابٌ مقارنة، ومنها ظاهرة ومنها باطنة. أما الآداب السابقة فنقول : على السالك بعد التوبة وتهذيب النفس بالرياضات وتلطيف الأسرار وهيئتها لتَواسم الحضرات، باعتزال الخلائق وبتخفيف العلائق، وقطع كل عائق، وتحصيل علم الأبدان المفروض على الأعيان وتحرير المقاصد، فإنها أرواح مقامات، القاصد بأن تكون شرعية لا عادية، وعليه اختيار ذكرٍ لحالِهِ مناسب، فيدأب على ذكره ويُواظب.

ومن الآداب : المَلبس الحلال الطاهر المطيب بالرائحة الطيبة، وطهارة الباطن بأكل الحلال، فإن الذكر وإن كان يُذهب الاجزاء الناشئة من الحرام، إلا أنه إذا كان الباطن خالياً من الحرام أو الشبهة تكون فائدة الذكر في تنوير القلب أكثر وأبلغ، وإذا كان في الباطن حرام غسله منه ونظفه فكانت فائدته حينئذ في التنوير أضعف، ألا ترى أن الماء إذا غسلت فيه المتنجس أزال النجاسة، ولم تكن فيه مبالغة في التنظيف ولذلك يستحب غسله ثانية وثالثة، وإذا كان المحل المغسول خالياً عن النجاسة ازداد بهجة ونضارة من أول غسلة، وإذا نزل الذكرُ للقلب فإن كان فيه ظلمة نوَّره، وإن كان فيه نور زاده وكثَّره.

ومن آداب المقارنة : الإخلاص، وتطييب المجلس بالرّائحة الطيبة لأجل الملائكة والجن، والجلوس متربعاً مستقبل القبلة إن كان وحده، وإن كان في جماعة فحيث انتهى به المجلس، ووضع راحتيه ظل فخديه، وغمض عينيه مع بقاء توجهه نصب عينيه. قالوا : وإن كان تحت نظر شيخ تخيَّل شيخه بين عينيه؛ فإنه رفيقه في الطريق وهاديه، وأن يستمد بقلبه أو شروعه في الذكر من همَّة شيخه، معتقداً أن استمداده منه هو استمداده من النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه نائبه.

 وأن يذكر بقوة تامّة مع التعظيم، وتصعيد لا إله إلا الله من فوق السرّة ناوياً بلا إله، نفي ما سوى الله عن القلب، وناوياً بإلّا الله إيصالها إلى القلب اللحمي الصنوبريّ الشكل ليتمكن إلّا الله في القلب ويسري بجميع الأعضاء، وإحضار معنى الذكر بقلبه مع كل مرّة.

 قال بعضهم : لا يصحُّ أن يكون تردد الذكر مرة بعد مرة إلّا بمعنى غير المعنى الأول. قيل : وأدنى درجات الذكر أنه كلما قال : لا إله إلّا الله لا يكون في قلبه شيء غير الله إلا ونفاه من قلبه ، ومتى التفتَ إليه في حال ذكره فقد أنزله منزلة الإله من نفسه، قال تعالى : {أَفَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلَٰهَهُ هَوَاهُ} [الفُرقان : 43] وقال : {لَّا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلَٰهًا آخَرَ} [الإسراء : 22] وقال : {أَلَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يَا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطَانَ} [يس : 60] وفي الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم : (تعس عبد الدينار تعس عبد الدرهم)، وإن كانا الدينار والدرهم لا يعبدان بركوع ولا سجود، وإنما ذلك بالتفات القلب إليهما، فلا تصح منه لا إله إلا الله إلا بنفي ما في نفسه وقلبه مما سوى الله تعالى، ومَن امتلأَ قلبه بصور المحسوسات لو قال الف مرة، قلَّ ما يشعر قلبه بمعناها، وإذا فرغ القلب عن غير الله لو قال مرة واحدة الله يجد من اللذة ما لا يستطيع اللسان وصفه. 

قال الشيخ عبد الرحيم القنائي: قلت لا إله إلا الله مرّة، ثم لم تعد إليّ وكان فى تيه بنى إسرائيل عبد أسود كل ما قال لا إله إلا الله ابيض من رأسه إلى قدمه، وتحقيق العبد بلا   إله إلا الله حالة من أحوال القلب لا يعبر عنها اللسان ولا يقوم بها جَنَان، ولا إله إلا الله، وإن كانت خلاصة الخلاصة من التوجهات فهي مفتاح حقائق القلوب، وترقي السالكين إلى عوالم الغيوب.

 ومن الناس من اختار موالاة الذكر بحيث تكون الكلمتان كالكلمة الواحدة لا يقع بينهما تخلّل خارجي ولا ذهني كي لا يأخد الشيطانُ نصيبه، فإنه في مثل هذا الموضع بالمرصاد لِعلمه بضعف السالك عن سلوك هذه الأودية لبُعدها عن عادته لاسيما إن كان قريب العهد بالسلوك قالوا : وهذا أسرع فتحاً للقلب وتقريباً من الربّ. 

وقال بعضهم : تطويل المدّة من لا إله إلا الله مستحسن مندوبٌ إليه، لأن الذكر في زمن المدّ يستحضر في ذهنه جميع الأضداد والأنداد، ثم ينفيها ويعقب ذلك بقوله : لا إله إلا الله فهو اقرب إلى الإخلاص، لأنه لا يكون الإقرار بالإلهية، وهو وإن نفى بلا إله عينه فقد أثبت بإلّا كونه، بل إن نور يوضع على القلب فينوِّره.

 ومنهم من قال :  ترك المدّ أولى لأنه ربما مات في زمان التلفّظ بلا إله قبل أن يصل إلى إلا الله، ومنهم مَن قال : إن قَصَد الانتقال من الكفر إلى الإيمان فترك المدّ أولى ليسرع الانتقال إلى الإيمان، وإن كان مؤمناً فالمدّ أولى لِما تقدّم.

وآدابه اللاحقة : إذا سكت باختياره يحضر مع قلبه متلقياً لوارد الذكر وهي الغيبة الحاصلة عقب الذكر وتسمّى النومة أيضاً، فكما أن الله تعالى أجرى العادة بإرسال الرياح نشراً بين يدي رحمته المطرية أجرى العادة بإرسال الرياح نشراً بين يدي رحمته العلية فلعله يرد عليه ما يعمر قلبه في لحظة ما لا تعمره المجاهدة والرياضة في نحو ثلاثين سنة.

وهذه الآداب تلزم الذاكر الواعي المختار، أما المسلوب الاختيار فهو مع ما يرد عليه من الأذكار وما يرد عليه من جملة الأسرار، فقد تجري على لسانه الله الله الله أو هو هو هو أو لا لا لا أو ا ا ا أو اه اه اه أو صوت بغير حرف أو تخبط، فأدبه التسليم للوارد وبعد انقضاء الوارد يكون ساكناً ساكتاً.

وهذه الآداب لمن يحتاج إلى ذكر اللسان أما الذكر بالقلب فلا يحتاج إلى هذه الآداب.


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية