رابعا : أوجه المناسبة بين الأصالة والمعاصرة
إن شيخنا سيدي حمزة طيب الله ثراه وأكرم مثواه قد كان يعيش عصره بكل ما تحمله الكلمة من معنى،سواء في لبسه أو أكله ومسكنه أو راحلته وسيارته،بحسب مقتضى زمانه،رغم أنه كان خالي القلب عن التعلق بكل هذه الشواغل الدنيوية وزخرفتها.
فقد ينفق في السر والعلن من غير حساب ولا من ولا أذى،وما اقتناؤه لقسط من مظاهر الدنيا على ضآلتها إلا من باب تأليف القلوب وتحبيب الدعوة إلى النفوس،بالجمال والمال والذوق والحال وحلاوة المنطق والمقال.
ومن هذا المسلك في التكامل فإنه كان يتمنى لكل أهل هذا الوطن المغربي العزيز،بل لكل المسلمين قاطبة؛أو قل لكل البشرية جمعاء،الرخاء والسلم ورغد العيش،حتى لا يبقى شظفه حائلا بينه وبين التوجه إلى الله تعالى عند الانشغال الكلي بطلب القوت وأزمات السكن وضعف النفوس أمام إغراء الماديات على حساب الأعراض والأغراض والذمم.
لهذا فمنذ سنين عديدة ونحن نسمع منه انشغاله بالوضع الاقتصادي للمغرب و الخصاص الذي يعوق تقدمه من خلال نقص الطاقة ببلادنا.
فقد كان في مرات عديدة يدعو الله تعالى ويلح بالسؤال لأن يظهر في بلادنا بحرا من البترول! وهو دعاء مشهور عنه ومعلن يعلمه كثير من المريدين،إلى أن بدأنا نسمع مؤخرا عن الإرهاصات الأولية لاكتشاف آبار النفط بمناطق من المغرب بالرغم من أن البلد قد يستغني عنه كمصلحة إذا كان سيجر وراءه بلايا وأطماع دولية مبنية على الصراع والتدمير وإشعال نيران الفتن ،عافانا الله منها وجنبنا ويلاتها بفضله ورحمته وبدعوات أوليائه ،وعلى رأسهم شيخنا سيدي حمزة ثم وارث سره الحالي شيخنا سيدي جمال ،وبحسن تدبير وسياسة أمير المؤمنين الملك محمد السادس...
بحيث إن هذه الأخبار لم تكن بالنسبة إلينا تمثل مفاجأة ولا شيئا جديدا في وعينا وتوقعاتنا،وذلك انطلاقا من قناعتنا بأن شيخنا سيدي حمزة قد كان من بين الأولياء الذين قال في حقهم سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم :"إنَّ لله رِجالا لَوْ أَقْسَمُوا عَلَى الله لأبَرَّهُمْ".
إضافة إلى هذا فموضوع الصحراء المغربية وأمن واستقرار البلاد كان دائما محط أهم اهتماماته الوطنية في بعدها التوحيدي والتنموي من خلال الدعوات وتخصيص الأذكار للحفظ والنصر وردع ودرء أية فتنة قد تهدد استقرار الوطن أو تسيء إلى عاهل البلاد وأمير المؤمنين .ناهيك عن تلك التعبئة الشاملة لفقراء الطريقة وخروجهم في يوم 25 يونيو 2011 من أجل تثبيت الدستور وتعديله لما فيه مصلحة البلاد والعباد وتحقيق الاستقرار.كنت قد ساهمت حينها بمقالات دقيقة وعميقة ،مستقلة عن أية إملاءات وتوجيهات سياسوية، كلها تصب في الحفاظ على وحدة البلاد واحترام الحقوق والواجبات بين الحاكم والرعية ،خاصة موضوع مكانة الملك باعتباره رمز الوحدة والاستقرار وهيبة الدولة من أجل الصالح العام.كان من بينها تمهيدا "أذواق صوفية في دعم للوحدة الوطنية"ثم تلتها مقالات أخرى في نفس السياق.
فلقد كان يؤكد لنا بأن الصحراء مغربية وستبقى كذلك بوجه أو آخر،وأن العلم المغربي سيظل خفاقا يرفرف على أجوائها وترابها مهما كان الحال،ثم يعلل كلامه بأن هذا مما تفرسه أهل الله الصالحين،وهو أيضا يتأسس على مبدأ:"اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله"الحديث.
أيضا،فمن مظاهر معاصرة الشيخ ومسايرته للظروف كثرة تناوله للأدوية وتقبله للعلاجات والنصائح الطبية في مداواة أمراضه الجسدية،باعتباره بشرا عاديا في ظاهره يمرض كما يمرضون ويسقم كم يسقمون حتى توفاه أجله المحتوم وناله قضاء الله الذي لا راد لقضائه "وما ترددت عن شيء أنا فاعله ترددي عن قبض نفس عبدي المؤمن يكره الموت وأكره مساءته"كما ورد في حديث الولي.
بل قد كان يتوخى العلاج عند أشهر الأطباء وأكثرهم بروزا في اختصاصاتهم سواء كانوا مسلمين أو غيرهم،حتى إنه قد يتبع وصفاتهم بالحرف والدقة ويتقيد بأوقات العلاج ساعة ودقيقة.
كل هذا فيه إشارة إلى تربية المريدين ودلالة على أنه في حد ذاته طبيب ماهر وتحقيقي،يقدر للطب دوره ودقته في مجال العلاج والاستشفاء،فكان كثيرا ما يقول بهذا الصدد:"كما هو الحس يكون المعنى".
فكان هذا توجيها لطالبي وجه الله تعالى ومريدي السلوك على يد شيخهم بأن يلتزموا أورادهم بدقة ويتقيدوا بوصفات شيخهم في العلاج لعلهم يجتازون عوارضهم وأمراضهم ويصبحون أصحاء في باب المعنى ورياضة النفوس وتطهير القلوب.
كما أن من الملاحظ انتماء الكثير من الأطباء وعلى عدة تخصصات جد متطورة إلى طريقته،وهذا يمثل ظاهرة مثيرة للانتباه والتساؤل المعرفي،بحيث إن الأطباء الذين كانوا يعالجونه قد يعالجهم الشيخ في الباطن بإذن الله تعالى،فيكون ما أسداه إليهم أهم وأثمن مما قدموه إليه بكثير،وكيف يقاس علاج الأجسام بعلاج الأرواح في هذا المقام؟إذ الجسد فان ومتحلل بينما الروح باق ووجوده مسترسل!
من هنا،فإن مظاهر المشيخة الحقة والقطبية الفريدة والتجديد،كما يعبر عنه الصوفية، قد كانت بادية المعالم بكل قوة عند الشيخ سيدي حمزة القادري بودشيش،سواء في باب التوحيد والاعتقاد أو الكرامات والمقامات وكذا الجمال والجلال.
فلقد استقطب كل الفئات الاجتماعية من كل الجهات الوطنية والعالمية، بمؤسساتها المادية والمعنوية، العلمية والتقنية، الأدبية والفنية، النفسية والروحية وهذا قد يتجلى بصورة لا تقبل المماراة في ذلك الملتقى العالمي للتصوف الذي تنظمه الطريقة القادرية البودشيشية ويتولى تنظيمه والسهر عليه عمليا وبالدرجة الأولى حفيد شيخنا الدكتور سيدي منير بن سيدي جمال بن سيدي حمزة القادري بودشيش رضي الله عنهم جميعا ...
فكان أن برزت حلته المحمدية بكل جماليتها وتناسقها في هذا الاهتمام الذي يخصص في كل سنة للاحتفال بذكرى المولد النبوي الشريف،حيث يكون بمثابة ملتقى روحي عالمي يجمع بين كل الأجناس والشعوب والقبائل حيث تكتسي كل من حضرها باكتساء شيخها سيدي حمزة بردة محمدية نورانية،خيطها الذهبي السني:محبة وشوق إلى رسول الله سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم وفناء في حبه والتوسل به إلى حضرة الله الودود الحميد.
بهذا فقد حق لمريديه والصادقين في طلب الطريق إلى الله تعالى بأن ينعتوا شيخهم بالوارث المحمدي لشمولية تعامله مع كل مظاهر الوجود في صورته الكاملة والمتكاملة وجوبا وإيجابا،على سبيل الذوق والمناسبة والسلوك كما أجمله شيخنا سيدي حمزة طيب الله ثراه وأكرم مثواه في تعريفه الدقيق والقار للتصوف حيث قال:"التصوف أخلاق وأذواق وأشواق".