آخر الأخبار

جاري التحميل ...

صلة الحلَّاج بالله

هذا الحلَّاج المحب الفاني، العابد المثالي، السابح في وجده، المحترق في تجربته، المشوق في قربه، الذي ملأ الدنيا بضجيج ضراعاته ومواجيده، قد امتلأت صحف التاريخ بالتهاويل والأباطيل، حول حبه وعقيدته، وحول إيمانه وصلته بربه!

وصفوه بأنه حلولي ينادي بالحلول، ويتخذ الحب والفناء معراجًا لغايته، وتنادوا بأنه اتحادي، يحاول برياضاته ومجاهداته وشطحاته، أن يتحد بموجده في تجربةٍ مهمةٍ غامضةٍ! وأنه اتخذ من الوجد والنشوة عند السماع والاستغراق سبيلًا إلى هدفه، حتى أصبح في سكره وسبحاته يقول في دعاوى عريضةٍ … أنا عوضًا عن هو! تأليهًا لنفسه وللإنسان المجتبَى المختار الكامل، الذي يجد في ذاته حقيقة … صورة الله!

فهل كان الحلَّاج كما قالوا؟ وهل كان الحلَّاج كما وصفوا؟ لنمشِ معه خطواتٍ في مناجاته لربه، وخطواتٍ في حديثه عن صلة الإنسان بخالقه.
قال أحمد بن فاتك: «قال الحلَّاج: من ظن أن الألوهية تمتزج بالبشرية، أو البشرية تمتزج بالألوهية فقد كفر، فإن الله انفرد بذاته وصفاته عن ذوات الخلق وصفاتهم، فلا يشبههم بوجهٍ من الوجوه، ولا يشبهونه بشيءٍ من الأشياء، وكيف يتصور الشبه بين القديم والمحدث، ومن زعم أن الباري في مكانٍ، أو على مكانٍ، أو متصل بمكانٍ، أو يتصور على الضمير، أو يتخايل في الأوهام، أو يدخل تحت الصفة والنعت فقد أشرك.»

وعن الحسين بن حمدان قال: دخلت على الحلَّاج يومًا فقلت له: أريد أن أطلب الله فأين أطلبه؟ فاحمرت وجنتاه وقال: «الحق تعالى على الأين والمكان، وتفرد عن الوقت والزمان، وتنزه عن القلب والجنان، واحتجب عن الكشف والبيان، وتقدَّس عن إدراك العيون، وعما تحيط به أوهام الظنون، تفرد عن الخلق بالقِدم، كما تفردوا عنه بالحدوث، فمن كانت هذه صفته كيف يُطلب السبيل إليه؟!» ثم بكى وقال:

فقلت أخلَّائي هي الشمس ضوؤها      قريبٌ ولكن في تناولها بعد

قال ابن فاتك: «قصدتُ الحلَّاج ليلةً فرأيته يصلي فقمت خلفه فلما سلَّم قال: اللهم أنت المأمول بكل خيرٍ، والمسئول عن كل مهمٍ، والمرجو منك قضاء كل حاجةٍ، والمطلوب من فضلك الواسع كل عفوٍ ورحمةٍ. وأنت تَعْلم ولا تُعْلم، وتَرى ولا تُرى، وتخبر عن كوامن أسرار ضمائر خلقك، وأنت على كل شيءٍ قديرٌ. وأنا بما وجدت من روائح نسيم حبك، وعواطر قربك، أستحقر الراسيات، وأستخف الأرضين والسموات، وبحقك لو بعتَ مني الجنة، بلمحةٍ من وقتي، أو بطرفةٍ من أحر أنفاسي لما اشتريتها، ولو عرضتَ عليَّ النار بما فيها من ألوان عذابك لاستهونتها في مقابلة ما أنا فيه من حال استتارك مني، فاعفُ عن الخلق ولا تعف عني، وارحمهم ولا ترحمني، فلا أخاصمك لنفسي، ولا أسألك بحقي، فافعل بي ما تريد.

فلما فرغ قام إلى صلاةٍ أخرى وقرأ الفاتحة، وافتتح بسورة النور وبلغ إلى سورة النمل، فلما بلغ إلى قوله تعالى: أَلَّا يَسْجُدُوا لِلهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ صاح صيحةً عظيمةً وقال: هذه صيحة الجاهل به.»

ومن الكلم الذي تخفق له القلوب، ويشع منه النور، تلك المناجاة الحلَّاجية: «… إلهي وإله الموجودات والمعقولات والمحسوسات، يا واهب العقول والنفوس، ومخترع الأركان والأصول، يا واجب الوجود، ومفيض الجود، يا جاعل القلوب والأرواح، يا فاعل الصور والأشباح، يا نور الأنوار، ومدبر كل الدوار، أنت الأول الذي لا أول قبلك، وأنت الآخر الذي لا آخر بعدك، الملائكة عاجزون عن إدراك جلالك، والناس قاصرون عن معرفة كمال ذاتك.

اللهم خلصنا من العوائق الدنية الجسمانية، ونجنا من العوائق الردية الظلمانية، وأرسِل على أرواحنا شوارف آثارك، وأفضْ على نفوسنا بوارق أنوارك.

العقل قطرةٌ من قطرات بحار ملكوتك، والنفس شعلةٌ من شعلات جبروتك، ذاتك ذاتٌ فياضةٌ تَفِيضُ منها جواهرُ روحانيةٌ، لا متمكنة ولا متحيزةٌ، ولا متصلةٌ ولا منفصلةٌ، مبرأةٌ عن الأحياز والأين، معراةٌ عن الوصل والبين، فسبحان الذي لا تدركه الأبصار، ولا تمثله الأفكار، لك الحمد والثناء، ومنك المنع والعطاء، ولك الجود والبقاء، فسبحان من بيده ملكوت كل شيءٍ وإليه تُرجعون.»

قال ابن سودكين راويًا عن شيخه: «رأيت الحلَّاج في هذا التجلي، فقلت له يا حلَّاج: هل تصح عندك عِلِّية له وأشرت، فتبسم وقال لي: أتريد قول القائل: يا علَّة العلل، ويا قديم لم يزل؟ قلت له نعم. قال: هذه قولةُ جاهلٍ، اعلم أن الله تعالى يخلق العلل وليس بعلةٍ، كيف يقبل العلِّية من كان ولا شيءَ معه، وأوجد من لا شيء، وهو الآن كما كان، ولا شيء جلَّ وتعالى! لو كان علةً لارتبط، ولو ارتبط لم يصح له الكمال، تعالى الله عما يقول الظالمون علوًّا كبيرًا! قلت له هكذا أعرفه. قال: هكذا ينبغي أن يُعرف فاثبت.»

قال ابن سودكين: سمعت شيخي يقول في أثناء شرحه هذا التجلي: «لما اجتمعتُ بالحلَّاج رحمه الله في هذا التجلي وسألته عن العلِّية، هل تصح عنده أم لا؟ فقال هي قولة جاهلٍ، يعني أرسطو.»

ويقول الحلَّاج واصفًا للمتحققين بالله في وجدهم: «إن لله عبادًا اختارهم من خلقه، واصطفاهم لنفسه، وانتخبهم لسرِّه، وأطلعهم على لطيف حكمته، ومخزون علمه، أفناهم عن أوصافهم الناشئة عن طبائعهم، ولم يردهم إلى علومهم المستخرجة بحكم عقولهم، ولم يحوجهم من المرسوم من حكمة الحكماء، بل كان هو لسانهم الذي به ينطقون، وبصرهم الذي به يبصرون، وأسماعهم التي بها يسمعون، وأيديهم التي بها يبطشون، وقلوبهم التي بها يتفكرون. بان عن حلولٍ في ذواتهم، فأبدى الأشياءَ فيما بينه وبينهم، قهر كل موجودٍ، وغمر كل محدودٍ، وأفنى كل معهودٍ، ظهر لأهل صفوته، ولم يجعل للعلم إلى كيفية ذلك سبيلًا، ولا إلى بحث ذلك تمثيلًا.»

ومن الكلم الطيب الذي يصعد في معارج النور إلى مقام الإلهام قول الحلَّاج: «مَن عرفه ما وصفه، ومن وصفه ما عرفه، عنت الوجوه لعظمة كبريائه في أرضه وسمائه، وأنست قلوب أوليائه بشهود جلاله وجماله وبهائه، وكَلَّتِ المقاول عن شكر آلائه وأفضاله ونعمائه، وقصرت المعارف عن ذاته وصفاته وأسمائه، وحارت العقول في نزوله وارتفاعه واستوائه!

فقومٌ جحدوا وألحدوا، وقومٌ أشركوا وعددوا، وقومٌ أنكروا الصفات فعطلوا وبطلوا، وقومٌ أثبتوها ولكن شبهوا وشكوا.

ولم يُصب شاكلة الحق إلا من آمن بالذات والصفات، وكفر باللات والآلات، ولازم التوحيد والتنزيه، وأثبت الصفة ونفى التعطيل والتشبيه.»

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية