آخر الأخبار

جاري التحميل ...

الحلّاج والتصوف

كانت حياة الحلَّاج وما انبثق منها من إشعاعاتٍ وإشراقاتٍ، وما ابتدعت من مناهجَ في التفكير والتأمل والروحانيات، كانت كما يقول نيكلسون: لحظة جوهرية في تاريخ التصوف الإسلامي.
والتصوف عند الحلَّاج، هو انتساب الإنسان إلى الله سبحانه، لا إلى هذا العالم المادي الحيواني، هو ارتفاع الإنسان إلى الله في سفرٍ طويلٍ هائلٍ، لا تقدر عليه إلا عزمات الرجال الكبار، المصطفين الأحرار.
سفرٌ تفنى فيه الصفات البشرية، في الصفات الإلهية، فناء طاعةٍ وعبوديةٍ، وحبٍّ ووجدٍ، وذوقٍ وشوقٍ.
ويُقَسِّمُ الحلَّاج هذا السفر الطويل إلى أربع رحلاتٍ، تبتدئ أولاها بالمعرفة وتنتهي بالفناء، والثانية تبدأ أنوارها وإلهاماتها، حينما يعقب الفناء البقاء، وفي الثالثة، يوجه الإنسان الكامل اهتمامه لمخلوقات الله مرشدًا وهاديًا.
والرابعة وما أدراك ما الرابعة! قمةٌ سامقةٌ مشرقةٌ، يحلق الإنسان في آفاقها وقد غمرته الصفات الربانية، والأنوار الإلهية، فيصبح مرآةً تتجلى فيها حقائق الكون وأسراره، وهو موقفٌ لا مجالَ للحديث عنه، وحسبنا إلى أن نومئ هنا إلى كلمة الشيخ الأكبر محيي الدين بن عربي: «ليس في مستطاع أهل المعرفة إيصال شعورهم إلى غيرهم، وغاية ما في هذا المستطاع هو الرمز عن تلك الظواهر لأولئك الذين أخذوا في ممارستها.
يقول الحلَّاج: «أسماء الله التسعة والتسعين تصير أوصافًا للعبد السالك، وهو بعدٌ في السلوك غير واصلٍ.»
ويقول: «من صدق مع الله في أحواله، فَهِمَ عنه كل شيءٍ، وفهم عن كل شيء.»
ومن هذا الأفق قول الشبلي للجنيد: «ما رأيك في من الحق نعته، حالًا ومقامًا؟» فقال: «هيهات يا أبا بكرٍ، بينك وبين أكابر الطبقة ألف طبقةٍ، في أولها ذهب الاسم.» أي لا يوجد أنا أبدًا.
ولقد حمل الحلَّاج أمانة المعرفة الصوفية العليا وعاشها بروحه وقلبه وحسه، وقدم دمه فداءً لها في بطولةٍ أسطوريةٍ لا يزال شعاعها وإلهامها يومض عبر التاريخ.
كانت تجربة الحلَّاج الصوفية من أصدق وأخلص ما عرف تاريخ التصوف، وهذا سرُّ ما فيها من عمقٍ، ومن حرارةٍ، ومن إلهامٍ.
لقد صعد في معارجها بجناحٍ جبار من أجنحة الحب والوجد، ووهبها كل ذرات روحه وهتافات قلبه، وأماني حسه، وحمل قيثارته ليهب للخلود، إلهامات حبه ومعرفته وتجربته.
يقول الحلَّاج مصورًا حبه ووجده:
الله يعلم ما في النفس جارحة          إلا وذكرك فيها نيل ما فيها
ولا تنفستُ إلا كنتَ في نفسي                 تجري بك الروح مني في مجاريها
إذ كانت العين مذ فارقتها نظرت        إلى سواك فخانتها مآقيها
أو كانت النفس بعد البعد آلفةً           خلفًا عداك فلا نالت أمانيها
ثم يهتف، وقد برح به الهوى، واشتعل قلبه بالوجد، وهامت روحه بأنوار القرب، وسكرت أحاسيسه بإشراقات الأنس، حتى تفجرت ألحانًا وأنغامًا بحبه العلوي المقدس:
أباحت دمي إذ باح قلبي بحبها              وحل لها في حكمها ما استحلت
وما كنتُ ممن يُظهر السر إنما             عروس هواها في ضميري تجلت
فألقت على سرَّي أشعةَ نورها              فلاحت لجُلَّاسِي خفايا طويتي
فإن كنت في سكري شطحت فإنني        حكمتُ بتمزيق الفؤاد المفتَّت
ومن عجبٍ أن الذين أحبهم                وقد أعلقوا أيدي الهوى بأعنة
سقوني وقالوا لا تفني ولو سقوا           جبال حُنين ما سقوني لفنت
لقد توغل في معراج السلوك ففنى عن كل ما سوى الله سبحانه، وتطهرت روحه وبرئت من كل ما لا ينتسب إليه جلَّ جلاله، فصار في حال فناءٍ كاملٍ عن وجود السوي، فلم يصبر على ما شاهد من جمالٍ وجلالٍ فهتف:٤
والله ما طلعت شمسٌ ولا غربت             إلا وحبك مقرونٌ بأنفاسي
ولا خلوتُ إلى قومٍ أُحدثهم                   إلا وأنت حديثي بين جُلَّاسي
ولا ذكرتُك محزونًا ولا فرِحًا                إلا وأنت بقلبي بين وسواسي
ولا هممت بشرب الماء من عطشٍ          إلا رأيت خيالًا منك في الكاس
ولو قدرتُ على الإتيان جئتكم                سعيًا على الوجه أو مشيًا على الراس
ما لي وللناس كم يلحقوني سفهًا              ديني لنفسي ودين الناس للناس
ما للحلَّاج والناس؟ لقد سما فوق التراب والطين، وتطلع إلى مشارق الروح، ورب الأرباب.
ولنستمع إليه في تلك الضراعة المؤمنة المحبة الملهمة وهو يناجي حبيبه الأكبر وموجوده الأعظم: «… عن ابن الحداد المصري قال: خرجت في ليلةٍ مقمرةٍ إلى قبر أحمد بن حنبل رحمه الله، فرأيت هناك من بعيدٍ رجلًا قائمًا مستقبلًا القبلة فدنوت منه من غير أن يعلم، فإذا هو الحسين بن منصور وهو يبكي ويقول: يا من أسكرني بحبه، وحيرني في ميادين قربه، أنت المنفرد بالقِدم، والمتوحد بالقيام على مقعد الصدق، قيامك بالعدل لا بالاعتدال، وبعدك بالعزل لا بالاعتزال، وحضورك بالعلم لا بالانتقال، وغيبتك بالاحتجاب لا بالارتجال، فلا شيء فوقك فيظلك، ولا شيء تحتك فيقلك، ولا أمامك شيء فيحدك، ولا وراءك شيء فيدركك … أسألك بحرمة هذه الترب المقبولة، والمراتب المسئولة، ألا تردني إليَّ بعد ما اختطفتني مني، ولا تريني نفسي بعد ما احتجبتها عني، وأكثر أعدائي في بلادك، والقائمين لقتلي من عبادك.
فلما أحسَّ بي التفت وضحك في وجهي ورجع وقال لي: يا أبا الحسن، هذا الذي أنا فيه أول مقام المريدين، ثم زعق ثلاث زعقاتٍ وسقط وسال الدم من حلقه، وأشار إليَّ بكفه فذهبت وتركته، فلما أصبحت رأيته في جامع المنصور فأخذ بيدي ومال بي إلى زاويةٍ وقال: بالله عليك، لا تُعلم أحدًا بما رأيت البارحة».

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية