الكلام عند الأكياس هو اللفظ المركب من المقال والحال، بأن يكون المتكلِّم به مِمَّنْ يُنهِضُ حاله ويَدُلُّ على الله مقاله، المُفيد في قلوب المستمعين إمَّا علوماً أو أنواراً أو أسراراً. وفي الحكم : (تسبق أنوار الحكماء أقوالهم، فحيث صار التنوير وصل التعبير) فيفيد بمجرد وضعه في القلوب نهوضاً واشتياقاً إلى الحضرة القدسية أو خوفاً زاجراً عن المعصية.
والحاصل أن الكلام إذا خرج من القلب وقع في القلب، فيفيد إمَّا خوفاً أو شوقاً مقلقاً. وإذا خرج من اللسان كان حدُّه الآذان.
أو نقول : الكلام عند الحكماء هو اللفظ المركب من القول والعمل، فإذا كان الكلام خالياً من العمل كان غير مفيد في القلوب شيئاً، لكون الحال يُكذِّب المقال، لأن المتكلم الواعظ إذا عمل أوّلاً ثم تكلَّم ووعظ نفع قوله وأنهض حاله، وإلا كان ضرباً في حديد بارد.
وإن شئت قلت : الكلام الذي يعود بالنفع على صاحبه هو اللفظ المركب من القلب واللسان، المفيد بوضعه في القلب تنويراً أو ترقية وشهوداً، وهو الذكر الحقيقي باللسان والقلب، أو بالقلب والروح، أو بالروح والسر، وهو دوام الشهود. أو المفيد أجراً جزيلاً وإحساناً جميلاً، وهو ذكر اللسان والقلب إذا كان بلا شيخ، أو أمر بمعروف أو نهياً عن منكر، وما سوى ذلك : لغوٌ وهذرٌ ولهوٌ وتضييع العمر والاشتغال بما لا يعني، قال الله تعالى : {لَّا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِّن نَّجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلَاحٍ بَيْنَ النَّاسِ} وقال عليه الصلاة والسلام : (مِن حُسْنِ إسلام المَرء تَركُهُ مَا لَا يَعْنيه) فالكلام كله عليك لا لك إلّا ذكر الله وما والاه وفي الحديث : (رَحِمَ اللَّهُ عَبْدًا تَكَلَّمَ فَغَنِمَ ، أَوْ سَكَتَ فَسَلِمَ ).
يقول الشيخ سيدي البوزيدي رضي الله عنه : (الفقير الصادق بكلمة واحدة يقضي ألف حاجة، والفقير الكاذب يتكلم بألف كلمة ولا يقضي حاجة واحدة).
يقول سيدي أحمد بن عجيبة رضي الله عنه : (طالب الوصول لا نجده إلا ذاكراً أو متفكراً أو تالياً أو مصلِّياَ أو مذكِّراً أو مستمعاً، أوقاته معمورة وحركاته وسكناته بالإخلاص ملحوظة، إنْ تكلَّم فبذكر الله أو بما يُقَرِّبُه إلى الله، وإن صمت فعن الغيبة في الله، يجول في عظمة الله أو فيما يقربه إلى الله. وإن تحرك فبالله وإلى الله ، وإن سكن فمع الله مستأنساً بالله، مشتغلاً بربه، غائباً عن نفسه، ليس له عن نفسه أخبار، ولا مع الله قرار، أنسه بالله، ومجالسته مع الله، التقوى زاده، والقناعة رفاده، ومن بحر العرفان استمداده، قد استغنى بالله عمَّا سواه، ورفض وراء ظهره دنياه وهواه، قد اتخد الله صاحباً، وترك الناس جانباً).
وفي الصمت عن غير الله حكم وأسرار لا يذوقها إلا من استعمله وتخلَّق بالله.