الفصل الثالث
العلاقة بين التصوّف الحقيقي
والسلفيّة الحقيقيّة ووحدةالمصدر والهدف
المبحث الأول
التصوّف الحقيقي في نظر السلفيّين
الحقيقيّين سنة وهداية وأئمّة السلفيّة يعتمدون آراء
الصوفيّة في إثبات السنّة ودحض البدعة
إثبات السلفيّين ما ينكر على الصوفيّة، كالذكر الجماعيّ واعتبارهم من السلف الصّالح، والبليّة من الأتباع.
نعتمد في هذا المبحث على سلفيّين مشهورين. الإمامين : ابن تيمية والشاطبي. يقول الإمام الشاطبي في "الاعتصام" : (كثيراً من الجُهَّال يعتقدون في الصوفية أنهم يتساهلون في الاتّباع، وأنّ اختراع العبادات، والتزام ما لم يلزم في الشرع التزامه مما يقولون به ويعملون عليه، وحاشاهم من ذلك أن يعتقدوه، أو يقولوا به. فأول ما بنوا عليه طريقهم اتّباع السنة، واجتناب ما خالفها) (134).
ونقل عن الشيخ القشيري في رسالته الصوفيّة قوله : (إنّما اختصُّوا بالصوفيّة، انفراداً به عن أهل البدع) ومن تمام النّص (ظهرت البدع، وادّعى كل فريق أن فيهم زهَّداً وعبّاداً، فانفرد خواصّ أهل السنة المراعون أنفسهم مع الله، الحافظون قلوبهم من الغفلة باسم الصّوفيّة) (135).
وقد اعتبر الإمام الشاطبي الصوفيّة من السلف الصالح، وعزم على أن يضع كتاباً نموذجيًّا في حقيقة التصوّف، فقال : (وغرضي إن فسح الله في المدَّة ، وأعانني بفضله ، ويسَّر لي الأسباب أن ألخِّص في طريقة القوم أنموذجا، يستدلُّ به على صحتها، وجريانها على الطريقة المثلى. وإنه إنما داخلتها المفاسد، وتطرقت إليها البدع من جهة قوم تأخّرت أزمانهم عن عهد ذلك السلف الصالح ، وادّعوا الدخول فيها من غير سلوك شرعيّ ، وتقوّلوا عليهم بما لم يقولوا به) (136) نفس ما داخل التصوف من المفاسد داخل مثله أصل السلفيّة بسبب الأتباع. وإلاّ فأصل الطريقة الصوفيّة، كما سيأتي في قول ابن خلدون : (وأصله أن طريقة هؤلاء القوم -الصوفيّة- لم تزل عند سلف الأمّة وكبارها من الصحابة والتابعين ومن بعدهم طريق الحق والهداية).
فكان لفظ السلف الصالح يجمع بين صالحي السلفيّين، وصالحي الصوفيّة، وصالحي العلماء، كما يجمع الخَلف الفاسد، بين فاسدي السلفيِّين، وفاسدي الصوفيّة، وفاسدي العلماء، كما وقع اليوم. والبلية من الأتباع المتأخِّرين، مع بقاء الصالحين في كل فريق. والأمّة لا تخلو من الصالحين في كل فريق إلى قيام الساعة. وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (لَا تَزَالُ طَائِفَةٌ مِنْ أُمَّتِي ظَاهِرِينَ عَلَى الْحَقِّ لَا يَضُرُّهُمْ مَنْ خَذَلَهُمْ - وفي رواية وَمَنْ خَالَفَهُمْ - حَتَّى يَأْتِيَ أَمْرُ اللَّهِ وَهُمْ ظَاهِرُنَ) وقال الله في الصالحين والتّابعين لهم بإحسان : {وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَٰئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِم مِّنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ ۚ وَحَسُنَ أُولَٰئِكَ رَفِيقًا}(137) وهم الذين بصلاحهم أورث لهم الأرض، فقال : {وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِن بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ * إِنَّ فِي هَٰذَا لَبَلَاغًا لِّقَوْمٍ عَابِدِينَ}(138) وقال في مَن جاء بعدهم، وحادوا عن هداهم، وخالفوا هديهم : {فَخَلَفَ مِن بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضَاعُوا الصَّلَاةَ وَاتَّبَعُوا الشَّهَوَاتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا * إِلَّا مَن تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا فَأُولَٰئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَلَا يُظْلَمُونَ شَيْئًا} (139).
وقد سئل الإمام الشاطبي عن جماعة نسبوا أنفسهم للصوفيّة، وليسوا على صدقهم وإخلاصهم في النية والعمل، وحكم عليهم بالابتداع، فقال : (راموا ذلك بالانتساب إلى شيوخ الصوفية الذين ثبتت فضيلتهم، واشتهرت في الانقطاع إلى الله والعمل بالسنة طريقتهم، فلم يستقر لهم الاستدلال لكونهم على ضد ما كان عليه القوم، فإنهم -الصوفيّة- بنوا نِحلتَهم على ثلاثة أصول : الاقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم، في الأخلاق، والأفعال، وأكل الحلال، وإخلاص النية في جميع الأحوال... وهؤلاء قد خالفوهم في هذه الأصول، فلا يمكنهم الدخول تحت ترجمتهم).
....
134 -الاتعتصام89/1
135 - نفس المصدر والصفحة
136 - نفس المصدر 90/1
137 -سورة النساء : 69
138 - سورة الأنبياء : 105
139 - سورة مريم : 60