واعلم أنَّ المحبة هي مطايا القوم، وطريقهم الأقوم الذي به بلغوا إلى المنازلة العالية، والمراتب السامية فإنها أصل الوجود، وقوت القلوب، وغداء الأرواح ففازوا بشرف الدارين، ونالوا بها الحسنيين الأحسنين، وبها قدروا على خلع النعلين، والخروج عن القوتين، وهي التي لا تزيدها الحدود إلا الخفاء كالوجود عند أهل الصفا وجودها هو حدُّها، وما قيل فيها : فمن جهة أسبابها وموجباتها وعلاماتها وشواهدها وثمراتها وأحكامها لا بحسب حقيقتها؛ إذ ليس لها وصف أظهر من نفسها فهي كالعشق ذات صرفة، بل هي مرتبة من مراتب المحبَّة على ما قال بعضهم :
بأن لها عشر مراتب العلاقة والصبابة والغراو والوداد والشغف والعشق والتيم أي : التعبد والتذلل يقال : تيَّمه الحب أي : ذلَّله وعبَّده، والتعبد الصوف والخلة، فعلى هذا القول: العشق سابع مراتب المحبَّة.
وعلى قول الشيخ الجيلي :"المحبّة سابع مراتب الإرادة ومظاهرها، فالمحبة بحسب اللغة لها خمسة معالي الأول : الصفاء والبياض يقال: لبياض الأسنان ونضارتها حبب الأسنان، والثاني : العلو والظهور ومنه حباب الماء، والثالث : اللزوم والثبوت يقال: حبَّ البعير وأحب إذا برك، واستقر في موضعه، والرابع : اللبُّ يقال : حبه القلب أي : لبه ولبُّ الشيء خلاصته ومادته، والخامس : الحفظ يقال : للوعاء الذي يحفظ فيه الماء مثلاً حب الماء".
ولها بحسب الاصطلاح أقوال تبلغ إلى ثلاثين قولاً، أجمعها ما قاله الجنيد البغدادي قُدِّس سره : "الذهاب عن النفس، والاتصال بذكر الرب، والقيام بأداء حقوقه، وحصر النظر بالقلب إليها، والموصوف بها من أنوار الهيبة أحرق قلبه، ومن كأس المودة صفى شرابه فانكشف الجبار من غيب الأستار لأجله، فإن تكلم فبالله، أو نطق فعن الله أو تحرك فبأمر الله، أو سكن فمع الله فهو في جميع الأحوال بالله لله مع الله من الله إلى الله".
- وقال أبو يزيد قُدِّس سره : استقلال الكثير من نفسك واستكثار القليل من حبيبك، وقريب منه ما قيل : إنها استكثار القليل من الجناية واستقلال الكثير من الطاعة.
- وقال أبو عبد الله القرشي : أن تهبَ كلَّك لمحبوبك، فلا يبقى لك شيء.
- وقال الشبلي رضي الله عنه : أن تمحو من القلب ما سوى المحبوب.
- وقال ابن عطاء الإسكندري رحمه الله : هي إقامة العتاب دواماً.
- وقال أبو يعقوب السوسي رحمه الله : نسيان المحب حظه من المحبوب وحوائجه إليه.
- وقال يحيى بن معاذ : هي ما لا ينقص بالجفاء، ولا يزيد بالإحسان.
- وقيل : الميل الدائم بالقلب الهائم.
- وقيل : إيثار المحبوب على جميع المطلوب.
- وقيل : مواطأة القلوب لمُرادات المحبوب.
- وقيل : إرادة غرست في القلب أغصانها فأثمرت الطاعة.
- وقال الحارث المحاسبي : الميل إلى الشيء بالكليَّة، ثم إيثاره على النفس والروح والمال، ثم الموافقة له سراًّ وجهراً، ثم العلم بالتقصير في محبته.
- وقيل : بذل المجهود وترك الاعتراض على المحبوب.
- وقيل : سُكر لا صحو معه إلا بالمشاهدة، ثم السكر الذي عند المشاهدة لا يوصف.
- وقيل : ألَّا تؤثر عليه غيره، ولا يتولى أمرك إلا هو.
- وقيل : الدخول تحت رِقِّ المحبوب، والخروج من رِقِّ سواه.
- وقيل : سفر القلب في طلب الحبيب ولهج اللسان بذكره على الدوام.
ثم المحبَّة على ما قال بعض : جناح المسافرين، ودليل السالكين، وهي غايتهم والمتصف بها إمام الركب دائماً، فمقدمة أرباب الفناء يلتقون بساقة أرباب المحبة.
وقال بعضهم : هي بين الهمَّة والأُنس وأول أودية الفناء والعقبة التي ينحدر منها على منازل المحو، فمقدمة العامة في آخر مقام المحبة وساقة الخاصَّة في أول منازل الفناء، ومنزل الفناء مُتصل بآخر منزلة المحبة، وعلى الأول مقام الفناء عقبة في طريقها وليس بعده إلا البقاء، وما دون المحبَّة من المقامات كلها أغراض لا عواض فما سوى المحبين أجير ينصرف عند أخد الأجرة.
وأمَّا المحبُّون فهم عبيد ونفس العبد وعمله ومنافعه لسيده لا له فلا يعوضه في ملكه، فلا ينصرف من الباب أبداً.