آخر الأخبار

جاري التحميل ...

التيسير في التفسير للقشيري (30)


و روى ابن مسعود وعطية عن أبي سعيد عن النبي صلى االله عليه وسلم أنه قال : ( إن عيـسى ابن مريم أسلمته أمه إلى الكُتَّاب ليعلمه فقال له المعلم: اكتب بسم. فقال له عيسى مـا بـسم ؟ قال له المعلم: لا أدري، فقال له عيسى الباء بهاء االله والسين سناءه والميم مملكتـه .فقـال محمد بن جرير: أخشى أن يكون هذا غلطا من المحدِّث فإنَّ المعلم قال له اكتب باء سين ميم كما يُعلِّم الصبيان فغلط الراوي ووصله). ويكون معنى قول عيسى أن هذه الحروف التي تقـول لي : اكتُـْب مفاتيح هذه الصفات لله.


فأما معنى قوله ﴿االله ﴾ فقد اختلف الناس في هذا الاسم هل هو مشتقٌّ من معنى أم لا ؟ فمنهم من قال إنه ليس بمشتق وإنه اسم تفرد به الباري سبحانه يجري في وصفه مجرى أسماء الأعلام في غيره فهو الاسم الجامع للأوصاف ، و النحويين يقولون لأسماء الأعلام الاسم الجامع للأوصاف وهكذا حُكي عن الخليل و المبرد وغيره، و إليه مال أبو بكر القفال صاحب التفسير و به قال الحسين بن الفضل البجلي، قالوا: لأنه لو كان مشتقًّا من معنى وجب أن يجري ذلك في صفة غيره فإذا ثبت له معنـاه كالعـالم لمـا كان مشتقا من معنى وهو العلْمُ أجري هذا الوصف على غيره لما ثبت له معناه الذي اشتق منه ذلك و إلى هذا القول ذهب ابن كيسان وجماعة من الناس  وقال الباقون أنه مشتق من معنى لأن أسماء الألقاب إنما جاز في صفة غيره لمـا لهـم مـن الأمثال الذين يساوونهم في صفاتهم فلذلك احتيج إلى لقب ينفرد به عمـن يـساويه ولـيس الله سبحانه مثل يساويه حتى يكون له اسم لقب ولأنـه لـيس في العربيـة عنـدهم اسـم لقـب إلا منقولاً أو مشتقا وهذا المعنى معدوم في هذا الموضع، ثم اختلف هؤلاء في أصل ما اشـتق منـه هذا الاسم فمنهم من قال: أنه مشتق من أَلِهَ يَأْلَهُ فكأنَّ خلقهُ يألهُهُ أي يعبده و استدلوا عليه بقراءة ابـن عبـاس و مجاهـد: (وَيَذْركَ وإلاهتَكَ).



وتفسيرهما له بالعبادة أي وعبادتك قالا وكان فرعون  يُعْبَدُ ولا يَعْبُد قالوا فيقال أَلِهَ يَأْلَـهُ إلهـةً كما يقال عَبَدَ  يَعْبُدُ عِبادة وعَبَرَ الرؤيا عِبارةً ثم قالوا تَأَلَّهَ على وزن تَفَعَّلَ من الإلهية التـي هي العبادة و أنشدوا:


الله دَرُ الغانيات المدَّهِ        سَبَّحْنَ واسترجعنَ من تَأَلُّهِ

أي تَنَسُّكي و تعبدي، وهذا القول لا يصحُّ لأن الوصف له بأنهُ إلهٌ من صـفات ذاتـه وتقـدير العبادة في الأزل محالٌ. ولأنه إله الجمادات و البهائم و الأعراض و المجـانين و الأطفـال  ولا تصح العبادة من هؤلاء، ومنهم من قال أنه مشتق من أَلِهَ بالمكان إذا أقام ومنه قـول الشاعر:

ألَهنا بدار ما تَبِين رسومها      كأن بقاياها وشام على اليد 

قالوا فلما كان الباري سبحانه باقيا أزليا وجب أن يكون إلها، وهذا لا يصح لأنه لو كان مأخوذ من الإقامة و البقاء لوجب أن يكون كل من استحقَّ به الوصـف بـصحة الإقامـة يـسمى إلهـاً وهذا باطل وبمثل هذا بطل قول من قال من القدرية إن معناه القديم لأنه وجب أن يوصف به كل من صح وصفه بالتقدم بقسط ما له من التقدم حتى يقال إله بغايـة كـما يقـال قـديم بغايـة ولقيام الأدلة على أن الله سبحانه صفات قديمة باقية أزلية دائمة الوجود قائمة بذاته ولا يقـال لها آلهةٌ ومنهم من قال إنه مشتقٌّ من أَلِهَ إذا تَحَيَّر ومنه قول الشاعر :
وبيداء تيه تأله العين وسطها

أي تتحيَّر، وتسمى الشمس إلهة لأن الأبصار تتحيَّر  في شعاعها قالوا فلما كانت العقول تتحير في عظمته سمى إلهاً، وهذا لا يصحُّ أيـضا لأن التحير في الأزل مُحال ولأنه إله ما ذكرنا من البهائم و الجمادات و سائر ما ذكرنا ولا يصح منها التحير، ومنهم من قال إنه مشتق من لاه يلُوهُ لَوهاً ولَيَهاناً، واختلفوا في معنى لاه فمنهم مـن قال معناه عَلا يقال لاهت الشمس إذا عَلَت وبه سميت الشمس إلهَةً وهذا لا يـصح إلا أن يكون بمعنى علو الصفة لأن علو المكان في وصفه مُحال. ثم غـيره يوصـف بأنـه عـالي القدر ولا يعطى له من الآلِهية اسم، ومنهم من قال لاه بمعنى احتجب وكـأن االله تعـالى لما احتجب عن أبصار خلقه سمي إلها واستدلوا عليه بقول الشاعر :

لاهَ ربي عن الخلائق طُراً    خالق الخلق لا ُيرَى ويَرَى

ويقول آخر :


لاهَت فما عُرِفتْ يوماً بخارجةٍ    يا ليتها خرجت حتى رأيناها 



وهذا لا يصح أيضاً لأن الاحتجاب في وصفه مُحال، ولأنه إله ِ الأعراض ويـستحيل أن تكـون الأعراض ً محجوبةً كما يستحيل أن تكون رائيةً ولأنه إذا  تجلَّى لهم في الجنة وجب أن يخـرج عـن إلاهيته وهذا باطل ولأنه في الأزل إله ويـستحيل الحجـب و الاحتجـاب في الأزل بالاتفـاق.
ومنهم من قال إنه مشتق من الوله وهـو الطـرب والطـرب خفـة تـصيب الرجـل لخـوفٍ أو سرور فكأن العقول تُولَهُ إليه ومنه قول القائل :

وَلِهَت نفسي الطروبُ إليكم   ولهاً حال دون طَعْم الطعام

وهذا أيضاً باطل لأن الوله في الأزل مُحال ولأنه إله من لا يـصحُّ مـنهم الولـه كـما ذكرنـا مـن الأعراض و الجمادات وغير ذلك،  ومنهم من قال إنه مشتق من وَلِه إليه إذا فَزع إليه فالإله هو الذي يُولَه إليه في الحوائج و يُفزَعُ إليه في النوائب، وأنشدوا:

 ولهتُ إليكم في بلايا تنوبني       فَأَلفيتُكُم فيها ً كريما ممجَّداً 

وهذا أيضاً لا يصح لأن هذا المعنى في الأزل لا يصحّ، ولأنه إله من لا يصحُّ مـنهم الفـزع كـما ذكرنا، هؤلاء ؟.

فالإله الذي يوله إليه كالإمام الذي يؤتمُّ إليه والِّلحاف الذي  يُلتحفُ به قال فأصلهُ كان وِلاه
ثم قلبت الهمزة فقيل إلهٌ كما قيل وشاح و إشاح و وكاف و إكاف.
وقيل إنه في الأصل (إلها) بالسريانية وقد يزيدون في الألف في آخر الأسماء كـما يقولـون مشيحا و روحا، وهذا إن صح في لغتهم فهو اتفاق بين اللغتين ولا يجوز أن يكون هذا الاسـم بالعبرية ولا بالسريانية.

وفي المتكلمين من قال إنه بمعنى المعبود و الذي يستحق العبادة أو من تحُقُّ له العبادة أو الـذي لا يجب العبادة إلا له وهذه الأقاويل فاسدةٌ لما ذكرنا من استحالة العبـادة في الأزل واسـتحالة وجودها من هذه الأشياء التي ذكرناها. ولأنه صفة استحقها الباري سبحانه لا بفعـل فاعـل فلو كان بمعنى المعبود لكان العابد هو الذي جعله إلها بعبادته، ولكَانَ لا يكون إله الكفار إذا لم يكن معبودا لهم، و لأنه لو لم يفعل الرحمة بهم لم يستحق عليهم العبادة و الشكر عندهم فـإذا عندهم لم يكن إلها وهذا باطل .
و بعضهم قال إنه بمعنى النور و ذلك أيضا باطل لأنه ليس على تصحيحه من اللغـة و لا مـن المعقول شاهد.

وكذلك قول من قال إن معناه شيء لا كالأشياء. و بعض أهل السنة قالوا : معنـاه الـذي لـه إلاهية و هو استحقاق أوصاف الكمال التي منها العلم المحـيط و الإرادة الـشاملة ولـه الخلـق والأمر قال : وأصحّ ما قيل في معناه أن الإلـه مـن لـه الإلهيـةُ والإلهيـةُ القـدرةُ عـلى اخـتراع الأعيان. فإن قيل فكيف اخترتم ذلك، وليس في اللغة له أصلٌ ؟ قيل إن اللغة تـشهد لمـا قلناه و ذلك أنهم أطلقوا هذه ّ التسمية على من اعتقدوا فيه صـفة ّ التعظـيم و اسـتحقاق ذلـك وأصابوا في الجملة و أخطأوا في التعيين.

و يجوز أن يكون بمعنى الشيء اسم عندهم في الجملة و إن أخطأوا في تعيين ذلـك الـشيء كـما أنهم يعرفون معنى الحسن والقبح في الجملة، و لكـن أخطـأوا في تعيـين بعـض الأشـياء بأنـه حسنة و أنها قبيحة.

كذلك أخطأوا في تعيين المستحق للتعظيم المستوجب لكمال الأوصاف فإذا ثبت معناه فنظرنـا في أوصاف الباري سبحانه فلم يكن صفة من صفات ذاته إلا ويجوز أن يكون لغيره ذلـك إلا القدرة على الاختراع، فعلمنا أنه في الوصف الذي لا يليق بصفة غيره الذي به يظهر الحـوادث و به يمكن من تنفيذ مراداته فقلنا الإلهية هي القدرة على اختراع الأعيان.



التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية