المعطــى الثالـث : التأصيل الشرعي للبعد التوحيدي للذكر
إن اختيارنا لعنوان هذا الكتاب بالتركيز على البعد التوحيدي للذكر في الإسلام لم يكن اختيارا ذاتيا أو ذوقيا محضا وعاطفيا وإنما هو مؤسس على قاعدة شرعية قطعية الثبوت والدلالة والمتجلية في آية الأسوة الحسنة الواردة في سورة الأحزاب. يقول الله سبحانه و تعالى فيها « لَّقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِّمَن كَانَ يَرْجُو اللَّهَ وَالْيَوْمَ الْآخِرَ وَذَكَرَ اللَّهَ كَثِيرًا».
فالآية رغم قلة كلماتها جمعت إعجازا بيانيا وعرضا كاملا لعلم التوحيد بكل عناصره العقدية والتعبدية والسلوكية الظاهرية والباطنية كما أنها تمثل أصلا كبيرا في التأسي برسول الله صلى الله عليه وسلم في أقواله وأفعاله وأحواله.
ولهذا كان احتجاجنا على بعض المتعاملين مع الآية من باب الإختصار أو الإقتصار على بعض مفرداتها دون عرضها كاملة حتى تؤدي وظيفتها التي أرادها الله منها.
فبنية هذه الآية لا تحتمل التقسيم ولا تحتمل التعتيم المذهبي والخيارات الشخصية في التعامل معها، لأن أي مساس في بنيتها هو مس في وظيفتها. وكل مس في وظيفتها هو فقدان الوعي بأبعادها، ومن ثم سيكون التعامل معها من باب التفسير بالرأي والهوى، وهذا هو المنهي عنه شرعا والمستهجن عقلا وذوقا.
وقد تضمنت هذه الآية عناصرها في بنيتها النصية ظاهرة جلية يمكن تحديدها في التالي :
أ) التأكيد التحقيقي:
وصياغتنا لهذا العنصر مؤسسة على أن الآية مصدرة بحرفين من حروف التوكيد كل له قوته في التدليل على أن الآتي فيما بعد هو شيء محقق وقطعي وليس ظنيا فرضيا أو قابلا للتأويل والمزايدة اللفظية.
فاللام المؤكد بها قد يمكن اعتبارها لام الابتداء « ومن العلماء من يجعل اللام الداخلة على الماضي في هذا الباب لام قسم، فالقسم عنده محذوف ومصحوب اللام جوابه» ومع ذلك فقد يتكامل المعنى باعتبار اللامين لهما وظيفة توكيدية إذ أن أهم فوائد لام الابتداء هو توكيد مضمون الجملة المثبتة ولذا تسمى « لام التوكيد» وإنما يسمونها لام الابتداء لأنها في الأصل تدخل على المبتدأ أو لأنها تقع في ابتداء الكلام.
ولام القسم هي التي تقع في جواب القسم تأكيدا له، والجملة بعدها جواب القسم مقدرا. كما يذهب إليه بعض النحويين وخاصة في تفسير آية الأسوة الحسنة...
وأما قد فتختص بالفعل الماضي والمضارع المتصرفين المثبتين، ويشترط في المضارع أن يتجـرد من النواصب والجوازم والسين وسوف ويخطىء من يقول : « قد لايذهب وقد لن يذهب». ولا يجوز أن يفصل بينها وبين الفعل بفاصل غير القسم، لأنها كالجزء منه. أما بالقسم فجائز نحو « قد والله فعلت». وهي إن دخلت على الماضي أفادت تحقيق معناه. وإن دخلت على المضارع أفادت تقليل وقوعه، وقد تفيد التحقيق مع المضارع إن دل عليه دليل» إلى غير ذلك من أحكام هذا الحرف.
فالآية إذن جمعت كل مصادر التوكيد وأسبابها الظاهرة والمقدرة كما أن اللام فيها احتملت معنى حرفين في آن واحد. حرف الابتداء وحرف القسم بالإضافة إلى قد للتحقيق، هذا مع ربط الابتداء بالانتهاء مما سيعطي لنا توكيدا آخر وهو اعتبار بداية الآية جواب شرط مقدم على الشرط لغاية محورية عليا كما سنرى.
ب) الإستمداد الجماعي من الواحد:
ويفيد هذا المعنى قول الله تعالى «لكم في رسول الله»، فكلمة «لكم» تقتضي أن يخضع الكل إلى قاعدة موحدة توحد ذلك الكل المجزأ في كل موحد وهو رسول الله صلى الله عليه وسلم. وذلك كما عبر عنه البصيري في البردة بقوله :
وكلهم من رسول اللـه ملتمس غرفا من البحر أو رشفا من الديم
إذ وحدة الأمة لايمكن أن تتحقق إلا بهذا التركيز الكلي على شخص الرسول صلى الله عليه وسلم لكي تتحقق الأسوة الموحدة ومن ثم يكون الواحد هو صورة للجميع وانعكاس عليهم انعكاس عقيدة وعبادة وسلوك.
وقد شخص لنا القرآن الكريم ثمرة هذا التوجه وهذا الجمع في الوحدة في سورة الفتح، إذ لا فتح إلا من هذا الطريق حيث يقول الله تعالى «مُّحَمَّدٌ رَّسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَمَاءُ بَيْنَهُمْ تَرَاهُمْ رُكَّعًا سُجَّدًا يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِّنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا سِيمَاهُمْ فِي وُجُوهِهِم مِّنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذَٰلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَمَثَلُهُمْ فِي الْإِنجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوَىٰ عَلَىٰ سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ مِنْهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا».
إذ الواحد اتحدت بمعناه الجماعة فأصبحت نسخة منه ومن ثم أصبحت الجماعة مصدرا للاقتداء والأسوة السابق منها يعكس على اللاحق إلى يومنا هذا... وهو ما بيناه في السابق.
ج) القدوة المستحقة بوحدانية الاضافة :
وتتجلى هذه الاضافة ذات الطابع التوحيدي، في قول الله تعالى : «رسول الله» وهذا يعني أن لا قدوة إلا وهي ذات بعد توحيدي عقدي مرتبط بالله تعالى. وذلك لأن الرسول صلى الله عليه وسلم لم يستحق درجة القدوة إلا بهذه الإضافة أي استمداده لأصول القدوة وآثارها من الاذن الإلهي ودعمه بالوحي والإرسال والتربية والتأديب كما في قول النبي صلى الله عليه وسلم : « أدبني ربي فأحسن تأديبي». ومن هنا يكون مصدر القدوة هو الله تعالى، وتشخيصها يتجلى في رسول الله صلى الله عليه وسلم الواسطة الظاهرية والباطنية الواصلة بين اقتداء العبد بربه وفهمه عنه خطابه وتكليفه وأمره ونهيه ورضاه وغضبه...ومن هنا جاء الخطاب الالهي دالا على هذا التعدي الذي يمثله الاقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم. في قول الله تعالى : «مَّن يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطَاعَ اللَّهَ وَمَن تَوَلَّىٰ فَمَا أَرْسَلْنَاكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظًا» وقوله : «قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ».
فمحبوب المحبوب محبوب والمعطوف على المرفوع مرفوع للتلازم الإضافي القائم بين المشخص وهو الرسول صلى الله عليه وسلم والمصدر وهو الله تعالى.
ولضرورة التلازم الإضافي في الاقتداء فإن الإسلام فتح استرساله عبر الزمن بحسب ارتباط اللاحقين بالسابقين على مستوى الاسناد التسلسلي المتوارث في تشخيص القدوة وتلازمه الإضافي. ويستشف هذا من قول الله تعالى آمرا رسوله الكريم ب « قل هذه سبيلي أدعو إلى الله على بصيرة أنا ومن اتبعني وسبحان الله وما أنا من المشركين». ويقرب هذا المعنى قول النبي صلى الله عليه وسلم : «العلماء ورثة الأنبياء» إذ الوراثة تعني انتقال التركة من المورث إلى الوارث أي أن الوارث يصبح ممتلكا للتركة امتلاكا جوهريا وعينيا، والأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما وإنما ورثوا الإيمان والتقوى والعلم والعمل، ورثوا جواهر ذواتهم للمخلصين من أتباعهم. وحيث أن سيدنا محمدا خاتم الأنبياء والمرسلين فإن الوراثة عنه ينبغي أن تكون وراثة كاملة غير قابلة للقسمة أو الاستهلاك الجزئي، وهذا يعني وراثة ظاهرة وباطنة في تشخيص موحد يصل إليه المسلمون المؤتسون به بحسب هممهم وتطلعاتهم.