الفصــل الثــاني البعد التوحيدي لوظائف الذكر
عند هذا الاستنتاج الذي استمددناه من آية الأسوة لغة ومضمونا وذوقا، أمكن تحديد أبرز الأبعاد الوظيفية التوحيدية على المستوى العقدي التي يمثلها الذكر في الإسلام وهي :
أ) الذكر كشرط لاخلاص العبودية.
ب) الذكر كمعيار للقوة الايمانية.
ج) الذكر كمسبار لاستكشاف الأمراض القلبية.
الوظيفة الأولى الذكر كشرط لاخلاص العبودية
من بين ما درج عليه الكثير من المفكرين المسلمين في دراساتهم التوحيدية هو تقسيمهم للتوحيد من حيث علاقته بالتصور والممارسة إلى توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. فرأوا أن توحيد الربوبية لا يخص سوى التصور الباطني من حيث الاعتقاد في ذات الله وصفاته وأفعاله. وهو بهذا يبقى توحيدا قلبيا عقديا لا علاقة له بالممارسة والحركة والسلوك.
ومن خلال هذا المنظور شرع هؤلاء المفكرون في صياغة العقيدة صياغة نظرية وفكرية استدلالية قصد تثبيت عقائدهم وعقائد غيرهم ، لأن شرط التوحيد هو تحديد الصيغة المفيدة له عبارة و مضمونا.
أما توحيد الألوهية فاعتبروا فيه الجانب العملي المصاحب للجانب العقدي، والمتمثل في إخلاص العبودية لله تعالى إخلاصا لا تشوبه أدنى شائبة.
فتوحيد الألوهية يعني في مجمله التحقيق العملي لمعنى كلمة «لا إله إلا الله»، ومستوى هــذا التوحيد يتحدد بحسب نوعية المحرك العقدي الذي يحدد سرعة الهيكل أو العجلات ودورانها في تأدية وظيفتها الناقلة للمحرك وهيكله من مقام إلى مقام صعودا أو نزولا أو انبساطا... إلخ.
ولهذا التلازم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية من حيث اعتبار الوظيفة فإن أغلب العلماء المسلمين رأوا أن اعتبار توحيد الربوبية وصدق ادعاء تحقيقه عند الموحد المعتقد مشروط باعتبار توحيد الألوهية، وأن لا تنقل بمحرك لا رابطة له بالعجلات كما أنه لاقيمة للعجلات أو الهيكل والأبنية عند غياب المحرك السليم والجيد. « يوم لاينفع مال ولابنون إلا من أتى الله بقلب سليم» صدق الله العظيم.
إن هذا التقسيم المدرسي لمجالات التوحيد باعتبار ما يمكن أن نصطلح عليه بالتوحيد التصوري أو النظري. والتوحيد التعبدي والعملي، أو توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. قد يجد صعوبة كبيرة عند تحديد الوظيفة المنوطة بكلي المعنيين. لأنه قد يطرح السؤال التالي وهو : هل يمكن الفصل بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية عند الدراسة والممارسة فصلا كاملا وإعطاء كل مجال حقله الخاص به باعتبار أن هذا الجانب لايهم سوى التصور أو العقيدة وأن ذاك ليس من اختصاصه سوى العبادة والعمل أو الممارسة؟
أولا: التلازم في توحيد الربوبية والالوهية بالذكر:
فمن حيث الدلالة الشرعية نجد أن القرآن الكريم يطرح الاعتقاد دائما بجانب العمل والعبادة، ويتجلى ذلك بوضوح في سورة الفاتحة التي جمعت كل معاني التوحيد سواء تعلق الأمر بتوحيد الربوبية أو بتوحيد الألوهية. ويتلازم هذا المعنى التوحيدي الواصل بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية في الآية الوسطى في السورة وهي قول الله تعالى الذي تضمن توجيه عباده إليه بالدعاء ب « إياك نعبد وإياك نستعين» وهو أصل شرعي دال على وحدة التوحيد بنية ووظيفة، عقيدة وعبادة.
فكلمة إياك نعبد تفيد توحيد الألوهية.. وإياك نستعين» تحقق توحيد الربوبية والاعتقاد في أن الله تعالى هو المتصرف في مخلوقاته ومصدر وجودهم وسعادتهم.
ومن هنا كانت سورة الفاتحة لا تصح العبادة المفروضة في الصلاة إلا بها، لأنها تمثل لب التوحيد الخالص لله تعالى.
أما فيما يخص ممارسة الرسول صلى الله عليه وسلم. وتوظيفه لهذا التلازم بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية، فهو ما ورد عنه من ملازمة القراءة بسورتي الاخلاص ( قل هو الله أحد) و(قل يا أيها الكافرون) في ركعتي الفجر وركعتي الطواف وغير ذلك، لأن سورة الاخلاص تفيد توحيد الربوبية وسورة (قل يا أيها الكافرون) تفيد توحيد الألوهية.
وقد كان أيضا يقرأ في ركعتي الفجر وركعتي الطواف ب «قولوا آمنا بالله وما أنزل إلينا... » الآية . وفي الركعة الثانية بقوله تعالى : « قل يا أهل الكتاب تعالوا إلى كلمة سواء بيننا وبينكم ألا نعبد إلا الله ولا نشرك به شيئا ولايتخذ بعضنا بعضا أربابا من دون الله، فإن تولوا فقولوا اشهدوا بأنا مسلمون».
إن توظيف الرسول صلى الله عليه وسلم لهاتين السورتين والآيتين في صلاة تعبدية واحدة له بعد واحد وواضح مؤكد لمبدأ عدم الفصل بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية سواء على مستوى الممارسة العقدية والاستدلالية أو على مستوى الممارسة التعبدية العملية، لأن العبادة لا تكون إلا لله الواحد الأحد الفرد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفؤا أحد. وهذه العقيدة التوحيدية تقتضي إخلاص العبودية، فالعقيدة شرط لصحة العبودية والعبودية شرط لصدق وصحة العقيدة أيضا، ولهذا فالفصل بين العقيدة والعبادة هو فصل متكلف ولا قيمة لـه. لأن كـل عقيدة لا تؤدي إلى عبادة هي عقيدة غير صادقة وكل عبادة بدون عقيدة هي عبادة غير صحيحة. وبما أن العقيدة ثابتة لا تتغير ولا تتكرر فإن العبادة جعلها الله سبحانه وتعالى محل التكرار والعادة للتكيف مع موضوع العقيدة ولترسيخها ترسيخا يتناسب مع الظاهر تناسبا كليا لا إفراط ولا تفريط فيه.
وبما أن جل العبادات ذات مواقيت معينة وحدود زمنية ومكانية تنتهي عندها، فإن الذكر يبقى العبادة الوحيدة التي كتب الله لها الاستمرارية وعدم التحديد بالزمان والمكان كما هو الشأن بالنسبة إلى سائر العبادات الأخرى كالصلاة والصيام والزكاة والحج، كما أن مجرد التلفظ بصيغ الذكر أو قراءة القرآن مصدر التوحيد بكل معانيه هو في حد ذاته عبادة، مما يعني اشتماله على توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية في عملية واحدة لا يمكن فصلها دراسة ولا ممارسة.
ولهذه الخصوصية الوظيفية التي يتميز بها ذكر الله تعالى كان هو الوسيلة الروحية الأرقى لتمثيل حلقة الوصل بين العقدي والتعبدي وبين الظاهري والباطني والنظري والتطبيقي.
فهو الوسيلة المحققة للمناسبة الذوقية الرابطة بين توحيد الربوبية وتوحيد الألوهية. ربطا لا يقبل انفصالا. لأنه من جهة يعتبر تصريحا بتوحيد الربوبية ومن جهة أخرى ممارسة لتوحيد الألوهية. وهذا ماجعله حاضرا عند الاستدلال العقدي أو التقرير التوحيدي. أو الممارسة التعبدية كما تدل عليه النصوص التالية.
ففـيـما يـخص حــضور الـذكر عـند الاستدلال الـعقدي، نـجـد قـول اللـه تعالـى : « إن فـي خـلـق السـمـوات والأرض واخـتـــلاف اللـيــل والنـهـار لآيـات لأولي الألـبـاب الـذيـن يـذكـرون اللـه قـيـامـا وقـعـودا وعـلى جــنـوبـهـم ويـتـفـكـرون في خلق الــسـمــوات والأرض ربـنـا مـا خـلـقـت هــذا باطلا سبحانك فقنا عذاب النار».
والمستشف من الآية أن ذكر الله بجانب التفكر في خلق السموات والأرض قد ساهم مساهمة فعالة في ضمان الاستنتاج السليم والقطعي لتحقيق توحيد الربوبية. لأن التلازم بين الذكر ابتداء والتفكر عنده أعطى برهانا قطعيا دالا على وجود الله سبحانه وتعالى وهو برهان القصد والغاية وبهذا كان الذكر وسيلة تعبدية تهيء الروح وتروضها على إخلاص العبودية لله تعلى ووسيلة استدلالية تنور العقل والقلب لاخلاص الاعتقاد في الله سبحانه وتعالى الذي هو شرط صحة لاخلاص العبودية.