الباب الخامس في الأحدية
الأحدية عبارة عن مجلى الذات ليس للأسماء ولا للصفات ولا لشيء من مؤثراتها فيه ظهور، فهي اسم لصرافة الذات المجردة عن الاعتبارات الحقية والخلقية.
وليس لتجلي الأحدية في الاكوان مظهر أتمّ منك إذا استغرقت في ذاتك ونسيت اعتباراتك وأخذت بك فيك عن ظواهرك، فكنت أنت في أنت من غير أن ينسب إليك شيء مما تستحقه من الأوصاف الحقية.
أو هو لك من النعوت الخلقية، فهذه الحالة من الإنسان أتمّ مظهر للأحدية في الاكوان فافهم.
وهو أول تنزلات الذات من ظلمة العماء إلى نور المجالي، فأعلى تجلياتها هو هذا التجلي لتمحضها وتنزّهها عن الأوصاف والأسماء والإشارات والنسب والاعتبارات جميعاً بحيث وجود الجميع فيها، لكن بحكم البطون في هذا التجلي لا بحكم الظهور.
وهذه الأحدية في لسان العموم هي عين الكثرة المتنوعة فهي في المثل كمن ينظر من بعد إلى جدار قد بني ذلك الجدار من طين وآجر وجص وخشب، ولكنه لا يرى شيئاً من ذلك ولا يرى إلاَّ جداراً فقط فكانت أحدية هذه الجدار مجموع ذلك الطين والآجر والجصّ والخشب، لا على أنه اسم لهذه الأشياء، بل على أنه اسم لتلك الهيئة المخصوصة الجدارية.
كما أنك مثلاً في مشهدك واستغراقك في أنيتك التي أنت بها أنت لا تشاهد إلاَّ هو ولا يظهر لك في شهودك منك في هذا المشهد شيء من حقائقك المنسوبة إليك على أنك مجموع تلك الحقائق.
فتلك هي أحديتك على أنها اسم لمجلاك الذاتي باعتبار هويتك لا باعتبار أنك مجموع حقائق منسوبة إليك، فإنك ولو آنت تلك الحقائق المنسوبة فالمجلى الذاتي الذي هو مظهر الأحدية فيك إنما هو اسم لذاتك باعتبار
عدم الاعتبارات، فهي في الجناب الإلهي عبارة عن صرافة الذات المجردة عن جميع الأسماء والصفات وعن جميع الأثر والمؤثرات، وكان أعلى المجالي لأن كل مجلى بعده لا بد أن يتخصص حتى الألوهية فهي متخصصة بالعموم.
فالأحدية أول ظهور ذاتي، وامتنع الاتصاف بالأحدية للمخلوق، لأن الأحدية صرافة الذات المجرّدة عن الحقيَّة والمخلوقية، وهو أعني العبد قد حكم عليه بالمخلوقية، فلا سبيل إلى ذلك.
وأيضاً الاتصاف افتعال وتعمل، وذلك مغاير لحكم الأحدية، فلا يكون للمخلوق أبداً فهي لله تعالى مختصة به، فإن شهدت نفسك في هذا التجلي فإنما شهدت من حيث إلهك وربك فلا تدعيه بخلقيتك، فليس هذا المجال مما للمخلوق فيه نصيب البَتَّة. فهو لله وحده أول المجالي الذاتية، فأنت بنفسك قد علمت انك المراد بالذات والحق بالخلق، فاحكم على الخلق بالانقطاع ، واشهد للحق سبحانه وتعالي بما يستحقه في ذاته من اسمائه وصفاته ممن شهد لله بما شهد لنفسه :
عيني لنفسك نزهت في ذاتها * وتقدّست في اسمها وصفاتها
فاشهد لها ما تستحق ولا تقل * نفسي استحقت حسنها بثباتها
واشرب مدامك بالكؤوس ولا تقل* يوماً بترك الراح في حاناتها
ماذا يضرّك لو جعلت كناية * عنك اسمها وحفظت حرمة ذاتها
وجعلت مجلى الذات لاسمك مظهراً * والعزّ مظهر اسمها وسماتها
وأقمت فوق الكنز منك جدارها كي لا يشاهد جاهل حرماتها
هذي الأمانة آن بها نعم الأمين * ولا تدع أسرارها لوشاتها