واعلم أن لهم شريعة، وهي أن تعبد الله تعالى، وطريقة وهي أن تقصده بالعلم والعمل، وحقيقة وهي نتيجتها وهي أن تشهد بنور أودعه الله تعالى في سويداء القلب، وأن كل باطن له ظاهر وعكسه، والشريعة ظاهر الحقيقة، والحقيقة باطنهما وهما متلازمتان معنى، فشريعة بلا حقيقة عاطلة، وحقيقة بلا شريعة باطلة، ومثل الثلاثة بالجوزة، فالشريعة كالقشر الظاهر، والطريقة كالُّلب الخفي، والحقيقة كالدهن الذي بباطن الُّلب. ولا يتوصل إلى اللُّبِّ إلا بحرق القشر ولا إلى الدهن إلاّ بدقِّ اللُّب.
والخلق أقسام : ضعفاؤهم العوام، وخواص وهم الأولياء، وخواص الخواص وهم الأنبياء. ويترتب على ذلك قوله :
الشريعة لك حتى تطلبه منه لك، والحقيقة له حتى تطلبه به له عز وجل حيث لا حدّ ولا أين.
الشريعة لك أيها الضعيف حتى تطلبه بإخلاص وصدق وإلا فهي عليك لا لك. والحقيقة له تعالى حتى تطلبه تعالى به له عز وجل، لا بك له، ولا به لك، حيث لا حدّ ولا أين بخلاف الشريعة.
فالشريعة حُدودٌ وجهاةٌ والحقيقةُ لَا حدٌّ ولَا جِهةٌ.
فالشريعة لكونها أمرا بأعمال شرعية لها حدود ككون الصلاة ركعتين، وثلاث وجهات ككونها فرضا أو نفلاً مؤقتا أو غير مؤقت، والحقيقة لا حدٌّ ولا جِهَةٌ لها لأنها سرٌّ معنوي، ولأن القائم بها عارف بالله تعالى قد أعرض عن حظوظ البشرية لأنه في مقام الجمع، فهو أبداً يطلب الله بالله لله، فمطلوبه غير محدود لأنه الحق المعبود ومطلوب القائم بالشريعة محدود..
القائم بالشريعة فقط أي دون الحقيقة، تفضَّل عليه بالمُجاهدة والقائم بالحقيقةِ تَفَضَّلَ عليهِ بالمِنَّةِ، وشتَّانِ ما بَيْنَ المُجاهدَةِ والمِنَّةِ.
القائم بالشريعة فقط أي دون الحقيقة تفضَّلَ عليه بالمُجاهدة، وهي القيام بالعبادة الظاهرة وبالعبودية الباطنة، والعبادة للنفس لكونها ظاهرة والعبودية للقلب لكونها باطنة. والقائِمُ بالحقيقَة، تَفَضَّلَ عَليه بالمِنّة أي بالنعمة، وقيل المنَّة النعمة الثقيلة. والمراد بها العلم اللَّدنِّي النُّوراني الذي علَّمه الله للأرواح حين خاطبهم : {أَلَسْتُ بِرَبِّكُمْ}والمشار إليه بقوله : {وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا}إلا أنه مغمور في الأرواح، مستور بظلام الوجود وشواغل الطبيعة، فإذا زالا بتوفيق الله ظهر، وهو المراد بخبر : (مَنْ عَمِلَ بِمَا عَلِمَ أورَثَهُ الله عِلْمَ مَا لَمْ يَعْلَمْ) فكشف عن قلبه غطاء ذلك فأعرض عن كل مخلوق حتى عن الجنة، فهذا قائم بحقوق الربوبيَّة، وذاكَ بحقوق العبادة والعبوديَّة وشتَّانِ أي بعد ما بين المجاهدة والمنّة، فشتّان بين من أقيم في المجاهدة بغير كشف وشهود في محل الفرق، ومن كشف له عن سرِّ الألوهية فشهد معنى الجمع بالجمع. فكل مِن مَقامَيْ الفرق والجمع مطلوب، لكن في الاقتصار على الأوّل هو تعطيل، وعلى الثاني غُرورٌ وإبطال كما مرَّت الإشارة إليهما.