ليس غريباً أن يكون ابن تيمية واحدا من أعضاء «ديوان المحبين»، العاشقين؛ فمن كان يتصور أن ابن تيمية السلفي المتحجر القلب -كما ظن الكثيرون خطأ- أن يكون له جانب فكري صوفي؟ لكن للرجل تصوفاً، بل نجد تلميذه ابن القيم الجوزية يكتب في التصوف وفي خطرات القلب والضمير وفي مقامي البقاء والفناء، وله مؤلف في هذا الباب اسمه «مدارج السالكين بين إياك نعبد وإياك نستعين»، بالإضافة إلى كتب أخرى لا تقل روحانية وصوفية. بل يعتبر ابن تيمية الهروي الأنصاري، أعظم زهاد الإسلام ومفكريهم في حياة القلوب، وإننا لنجد ابن تيمية يكتب مجلدين كاملين في التصوف الخالص، ويمجد الجنيد ورابعة العدوية، ويبرئهما من أقوال حلولية، ثم يدافع عن أبي يزيد البسطامي نفسه. حدث كل هذا؛ ولكن دعاة السلفية المتأخرين جميعاً كرهوا اسم التصوف، كما كرهوا أن يكون ابن تيمية رمزاً من رموزهم، وهم يعلمون علم اليقين أن مواقف الشيخ في شبابه ليست هي في آخر حياته، ولو أتيحت للرجل فرصة لقراءة ما كتبه مريدوه عنه اليوم لأنكر ذلك ولم يوافقهم عليه.
غالبا ما تحضر شخصية ابن تيمية، عند بعض الإيديولوجيات، كعالم سلفي، عدو لروحانية الإسلام. أمّا عند البعض الآخر– مع الأسف- فيصر على حفظ صورة عن رجل دموي يشرّع للمتطرّفين القتل بدون وجه حق؛ وهذا لعمري عند الفرقتين أمر عظيم، وتطرف ما بعده تطرف، يضرب بتراث الرجل في فراغ اللامبالاة والنسيان.
ابن تيمية مجتهد في عصره، كلامه يؤخذ منه ويرد. أجده صوفيا منسيّا عند السّلف والخلف. فالمتتبع لسيرته يجد تربية روحية صوفية ظاهرة. وربما، ما لا يعرفه الكثير عن الإمام ابن تيمية أنه كان يظهر احتراما كبيرا لشيوخ التصوف، من أمثال الفضيل بن عياض وإبراهيم بن أدهم والسري السقطي والجنيد والشيخ عبد القادر الكيلاني وعدي بن مسافر.. هذا الاحترام الواضح في كتابات ابن تيمية، خصوصا منها تلك التي تتحدث عن التربية في موسوعته «الفتاوى» أو رسالته «الصوفية والفقراء/ يعني الفقراء إلى الله وهم المتصوفة» مثلا، تجعل الناظر يقف حائرا أمام السيل الجارف لنقد التصوف والصوفية من طرف بعض أنصار التيار السلفي الذين يعتقدون أنهم الورثة الشرعيون للإمام!
والحال أن الاستشهاد برأي ابن تيمية ضد التصوف وفلسفته اليوم، فيه كثير من المغالطات، لأن الرجل أصدرها طبقا لظروف سياسية واجتماعية معروفة أيام الغزو التتاري لبلاد المسلمين، وكان يعتبر أن المتصوفة بدروشتهم وتوسلهم بالأولياء ليست مجاهدة حقة لهؤلاء الغزاة. مع العلم أن هذا يبقى اجتهادا فقهيا واحداً في منظومة اجتهادات أخرى تخالف الإمام ابن تيمية الرأي بخصوص الجهاد والمجاهدة.
إلا أنّ التعامل بسطحية مع علماء الإسلام وموقفهم من التصوف أو الفلسفة أو الفقه، يجعلنا نقع في التطرف، ونغذي من حيث لا نعلم «البيداغوجيا الداعشية» القاضية بتحريم تدريس الفلسفة وحرق كتب التصوف مثلا! بدل البيداغوجيا التنويرية القاضية بالتشجيع على طرح السؤال الذي يربي فينا الذوق السليم. فيا ليت قومي يبصرون!
والقليل يعرف أن جورج مقدسي ذكر انتساب ابن تيمية للطريقة القادرية الصوفية، واستند في ذلك على سلسلة شيوخ ابن تيمية، التي تبدأ بموفق الدين بن قدامة، تلميذ الشيخ عبد القادر المباشر، وخريج المدرسة القادرية ببغداد! فضلا عن الاحترام والتقدير اللذين يبثهما ابن تيمية في كتاباته للشيخ عبد القادر، فهو يشير إليه بلقب «قطب العارفين» وهو «شيخنا أبو محمد قدس الله روحه».. كما أن ابن تيمية كثير الاستشهاد به كنموذج يقتدى به في الاعتقاد والسلوك؛ والشاهد ما أفرده في مئات الصفحات لشرح كتاب الشيخ عبد القادر «فتوح الغيب» في المجلد العاشر من الفتاوى والمسمى «كتاب علم السلوك».. وهناك بعض الإشارات في كتب ابن تيمية تدل، حسب الدارسين، على أنه كانت لأسرته صلة روحية بالشيخ عبد القادر، فمثلا يذكر في الكتاب السابق ما يلي: «حدثني أبي عن محيي الدين النحاس وأظنني سمعتها منه، أنه رأى الشيخ عبد القادر في منامه وهو يقول إخبارا عن الحق تعالى: «من جاءنا تلقيناه..» ».. تلك أمور قد لا يعرفها أصحاب «ثقافة الأذن».
والصوفية عند ابن تيمية مجتهدون في طاعة الله كما اجتهد غيرهم من أهل طاعة الله، ففيهم السابق المقرب بحسب اجتهاده، وفيهم المقتصد الذي هو من أهل اليمين، وفي كل من الصنفين من قد يجتهد فيخطئ وفيهم من يذنب فيتوب أو لا يتوب. ومن المنتسبين إليهم من هو ظالم لنفسه عاص لربه. وأما انتساب الطائفة إلى شيخ معين، يقول ابن تيمية في «الفتاوى» دائما: «فلا ريب أن الناس يحتاجون من يتلقون عنه الإيمان والقرآن كما تلقى الصحابة ذلك عن النبي صلى الله عليه وسلم، وتلقاه عنهم التابعون. وبذلك يحصل اتباع السابقين الأولين بإحسان. فكما أن المرء له من يعلمه القرآن والنحو، فكذلك له من يعلمه الدين الباطن والظاهر». ج11 ص510. وأسرار الحق بينه وأوليائه، وأكثر الناس لا يعلمون..كما قال ابن تيمية، والله المستعان.
بدر الحمري
المصدر : هنا