انظر أيها المريد، الطالب للوصول إلى كرامة الله عز وجل، بالتواني والتفريط، ألم يبلغك أن موسى عليه السلام لم يصل إلى امرأته حتى رعى الغنم وخدم عشر سنين، ثم أرسله الله تعالى وكلمه وأظهر برهانه؟!
فقال: ﴿لَا تَخَافَا إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى﴾ [طه:46].
فحين قال لهما: ﴿لَا تَخَافَا﴾، هل خافا؟ ألم يجعل لهما آية في عصا فظهراعلى كيد السحرة، وهزما الجيوش، ثم أداله الله تعالى من أعدائه، وأغرقهم أجمعين؟!
وهذا يوسف عليه السلام حين أخبر الله تعالى عنه: أنه يلقى في الجب ثم يباع بثمن بخس دراهم معدودة، وكانوا فيه من الزاهدين، ثم لم يفارقه البلاء، حتى فتن بامرأة العزيز وسجن السنين الكثيرة.
ثم انظر كيف أدله الله تعالى على إخوته، ثم أخرجهم الله تعالى، فأظهر برهانه وجعله على خزائن الأرض.
وكذلك الأنبياء الذين ذكرهم الله عز وجل، عليهم السلام.
وفي هذا بلاغ لمن فهم عن الله عز وجل وعن العلماء الأدلاء على الطريق إلى الله عز وجل.
وهذا سيدنا عمر بن الخطاب رضى الله عنه، وما روي عنه: أنه ما سلك طريقًا قط إلا سلك الشيطان طريقًا غيرها، وقال: «إن الشيطان ليفر من جبين عمر» وقد كان بالأمس من اللات والعزى في أمور ترضي الشيطان!
فانظر كيف أخلص لله تعالى وصدق إن كان منه العدو وباطله.
وروي عن ثابت البناني رحمة الله عليه أنه قال: كابدت القرآن عشرين سنة، وتنعمت به عشرين سنة.
وقال بعض الحكماء: إن القوم لم يزالوا يمضون الصبر حتى صار عسلًا.
وقال بعض الحكماء: إن دون كل بر عقبة، فمن تجشم ركوبها أفضت به إلى الراحة، ومن هاله ركوب العقبة فلم يرقها بقي مكانه!».
قال: لا بد منه لكل عبد رفيع القدر عند الله عز وجل، من أهل المعرفة بالله عز وجل.
وقد صح الخبر عن النبى صلى الله عليه وسلم، أنه سئل: من أَشَدُّ النَّاسِ بَلاَءً قَالَ: «الأَنْبِيَاءُ ثُمَّ الصَّالِحُونَ ثُمَّ الأَمْثَلُ فالأَمْثَلُ»).
يبتلى العبد حسب دينه فإن كان في إيمانه قوة شدد عليه البلاء، وإن كان في إيمانه ضعف خفف عليه البلاء.
فالأنبياء عليهم السلام، بادأهم الحق عز وجل، بكرامة الرسالة، و بالبلاء وتفقهوا فيه، وبه صبروا لله عز وجل، حتى نصروا.
والمؤمنون قامت لهم الرغبة في ثواب الله عز وجل الذي وعدهم، والرهبة من عقابه الذي به تواعدهم، فصبروا لله تعالى وأخلصوا وصدقوا، فشكر الله تعالى لهم ذلك، وأظهر برهانهم على الخليقة، فجعلهم علماء يقتدى بهم، وأسكن اليقين قلوبهم.
ثم إن المؤمنين، بعد ذلك على وجهين:
فمنهم: من يبدؤه الله تعالى، بالنعمة والمنة والموهبة، فيهب له الإنابة، ويحبب إليه البر، ويسهل عليه الطاعة، ويبدؤه بالمنن الكثيرة.
فإذا تمكن الروح في قلبه، واستعذب الأعمال الصالحة حمل عليه، بعد ذلك البلاء والاختبار والمصائب والضراء والعسر والشدة، نعم.
ثم تؤخذ منه الحلاوة التي كان يجدها، والنشاط في البر، فتثقل عليه الطاعة بعد خفتها، ويجد المرارة بعد الحلاوة، والكسل بعد النشاط، والكدر بعد الصفاء؛ وذلك لعلة البلوى والاختبار، فتعتريه الفترة.
فإن جاهد الآن وصبر واحتمل المكروه، صار إلى حد الراحة والبلوغ، وأضعف له البر ظاهرًا وباطنًا.
أما العبد الثاني: فإنه يبدأ بالصدق والأعمال الصالحة وأخلاق الصدق، ثم يعمل في ذلك ما شاء الله عز وجل، فتأتيه الكرامة بعد ذلك، فيعطيه الله تعالى ما لم يرجه ويحتسبه.
وهكذا عامة البدلاء لاتأتيهم الآيات والكرامات إلا من بعد العمل وبذل الجهد، وأكثر ما لم يحتسبوا ما أتاهم الله تعالى به، حين بدأهم الله عز وجل به.