آخر الأخبار

جاري التحميل ...

كشف الغطاء في طريق الصوفية / ابن خلدون (23)


الكلام فيما نقل المتأخرون اسم التصوف إليه والردّ عليهم في ذلك


اعلم أن مجاهدة المكاشفة - كما قدمناه - مشتملةٌ على المجاهدتَين الأُخرَتَيْن : مجاهدةُ الاستقامة، ومجاهدة التَّقوى، إذْ هي مشروطةٌ بها، فصارت حينئذٍ مشتملةٌ على مجاهدةٍ ورياضةٍ، ثم على مكاشفةٍ ومشاهدةٍ، فلا جُرْمَ أن هذا العلم ينقسم إلى نوعين :

علمٌ بأحكام المجاهداتِ والرياضةِ وشُروطِها، ويُسمَّى عِلْمُ المُعامَلَة.
وعلمٌ يرفع الحجاب وأحوال ما بَعده، ويُسمى علمُ المكاشفة، وعلمُ الباطن. وتحقيقه أن القلب عند تطهيره وتزكيَّتِه من الصِّفاتِ المذمومةِ، ثم إخمادُ القُوى البشريَّة ومُحاذاةُ جانبِ الحقِّ به - كما قدمناه - يرتفعُ عنه الحجابُ، ويتجلَّى فيه النُّورُ الإلهي، فتنكشفُ له بذلك أسرارُ الوجودِ عُلْوَه وسُفْلَهُ، ومَلكوتُ السمواتِ والأرضِ، وتَتَّضِحُ له معاني العلومِ والصنائعِ، وتَنْحُلُ جميع الشكوكِ والشُّبَهِ، ويَطَّلِع على ضمائرِ القلوبِ وأسرارِ الوجود، وتنكشفُ له معاني المُشْتَبَهَاتِ الواردةِ في الشَّرعِ، حتى تحصُلَ له المعرفةُ بحقائق الوجود كلها على ما هي عليه : من ذات الله، وصفاته، وأفعاله، وأحكامه، وقضائه، وقدرته، والعرش، والكرسي، واللوحن والقلم، والحكمة في خلق الدنيا والآخرة، ووجه ترتيب الآخرة على الدنيا، والمعرفة بمعنى النبوّة، والوحي، وليلة القدر، والمعراج، ومعرفة الملائكة، والشياطين، وعداوة الشياطين للإنسِ، ولقاء الملائكة للأنبياء، وظهورهم لهم، ووصولِ الوحي إلى النّبيِّ، وكرامة الوليِّ، وطريقِ المجاهدة، وتزكية القلب وتطهيره، ومعنى القلب، والروح، ومعرفة الآخرة، وأحوال القيامة : من الصراط، والميزان، والحساب، والحوض، والشفاعة، وعذاب القبر، والجنة، والنار، والعذاب، والنعيم، ومعنى لقاء الله، والنظر إليه، والقُربِ منه، وقُرْبُهُ إلى البُعدِ، وجميع ما كان يسمع من الأسماء، ويتوهم لها من معاني مُبْهمةٍ متّضحة.

فعلم المُكاشفةِ : أن يرتفعَ الغِطاءَ حتى تَتَّضِحَ جَلِيَّةَ الحَقِّ في هذه الأمور كلها اتِّضاحاً يحصل به اليقينُ الذي يَجري مَجْرَى العِيَانِ من غيرِ عِلمٍ ولا اكتسابٍ، وهذا ممكنٌ في حق هذه اللطيفة الربّانية كما قدمناهُ، وإنما حَجبها عن ذلك ما تَلَوَّثتْ به من تَوابعِ البدنِ وصفاتِ البشريَّة.

وعلم المعاملة الذي هو علم طريق الآخرة : هو العلمُ بكيفية تطهير القلب من الخبائثِ والكَدُراتِ بالكفِّ عن الشهوات، وإخمادِ القُوى البشرية بقطع جميع العلائق البدنية، والاقتداء بالأنبياء صلوات الله عليهم في جميع أحوالهم، فبِقَدرِ ما يَنجلي من القلب، ويُحاذي به شطرَ الحقِّ تَتَلَأْلَأُ فيه حقائقُهُ، وهذه هي الرياضةُ والمجاهداتُ التي قدمنا ذكرها.

فأما علم المعاملة فهو على صنفين : لأن مطلوب السالكِ إن كان النجاةُ فقط، ولم يترَقَّ إلى الأعلَى منها، فهذا يكفيه الورَعُ ومجاهدةُ القلب على مقتضى الوقوف عند حدود الله في أعماله الباطنة والظاهرة، وهذا هو فقه الباطن الذي ذكرنا أنه كان يسمى تَصَوُّفًا في الأوَّل قبل تَرَقي الهِمَمِ إلى مجاهدة الكَشْفِ، وكِتَابُ هذه بالطريقةِ المشهورِ فيها كتاب (الرِّعايةِ) للحارث المحاسبي رضي الله عنه.

وإنْ تَرَقَّى المريدُ بهِمَّتِهِ إلى كتاب السَّعادة الكبرى، والفوز بالدرجات، وتحصيل وسائلها التي هي الاستقامةُ وكشف الحجاب في حياته الدنيا، فلا بد له من معرفة اصطلاحاتِ القومِ، وآدابهم وأحكامهم، وكيفيَّة مجاهداتهم، وسبيل تعليمهم، ومراتبِ المجاهدات والمقامات، وكيف تختلفُ المجاهدةُ الواحدة باختلاف المقامات، والأخدِ بأقوالهم في ذلك كلِّهِ، والتَّقَيدِ للاقتداء بهم، وهذا الذي هو غلبَ فيه اسمُ التَّصَوُّفِ، وكتابُ هذه الطريقة (رِسَالَةُ) الأستاذ أبي القاسم القشيري، وفي المتأخرين كتاب (عَوارِفِ المَعَارِفِ) للسَّهْروَرْدِي.

ولما كانت مجاهدةُ الكشفِ مشروطةٌ بمجاهدةِ الاستقامةِ، ومجاهدةِ التَّقوى احتاجَ طالبُ الكشفِ إلى أحكان المجاهدات كلها، فجعل الغزالي كتابَ (الإحياء) مشتملاً على الطريقَين : طريقةُ الورعِ وفقهُ الباطنِ الذي تضَمَّنًهُ كتاب (الرِّعايَةِ) وطريقةُ الاستقامة ومجاهدةُ الكشفِ الذي تضمنه كتابُ (الرِّسَالةِ).


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية