عنوان المخطوط : نشر الزهر في الذكر بالجهر.
اسم المؤلف : إبراهيم بن حسن بن شهاب الدين ( الكوراني )تاريخ الوفاة:1101 ه
اسم الناسخ : محمد سعيد بن حامي حسني القرشي الكوكني
بسم الله الرحمن الرحيم، وإياه نستعين.
الحمد لله المُنَزِّل : {وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَأَصِيلًا}، {وَمِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَسَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلً}، وصلى الله على سيدنا محمد المُشَرَّف بخطاب : { وَاذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَتَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً*رَبُّ الْمَشْرِقِ وَالْمَغْرِبِ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلا}وعلى آله وأصحابه المكرمين بأولية خطاب :{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا}سراًّ وجهراً وعلى كل حال يحول فيه العبد تحويلا، صلاة وسلاما فائضي البركات عدد خلق الله بدوام الله الهادي من يشاء من عباده أن يكبروه تكبيرا ويهللوه تهليلا.
أما بعد : فقد ذكرت أيها الأخ المكرم أيدك الله تعالى أن بعض الوعاظ من علماء الحنفية يعظ الناس بأن ذكر الله تعالى جهراً حرام في المساجد وغيرها، وطلبتَ تحقيق ذلك من الكتب المعتبرة.
فأقول وبالله التوفيق أن النهي عن المنكر وإن كان من فروض الكفاية لكن محله في محرم مجمع عليه، أو في اعتقاد الفاعل ، ولا لعالم أن ينكر مختلفا فيه حتى يعلم من الفاعل أنه حال ارتكابه معتقد لتحريمه ؛ لاحتمال أنه حينئذ قلد من يرى حله أو جهل حرمته ، أما من ارتكب ما يرى إباحته بتقليد صحيح فلا يجوز الإنكار عليه. ولا شكّ أن هذا من منه، فإن الجهر بالذكر مطلقاً جائز بل أفضل من الإخفاء حيث لا محذور شرعيا في مذهب الإمام الشافعي رضي الله عنه كما يأتي عن فتاوى النووي وهو ظاهر مذهب الإمام أحمد وإحدى الروايتين عن الإمام مالك رضي الله عنهما، وهو أحد قولي قاضي خان، وهو قول الإمامين في تكبيرعيد الفطر، بل رواية عن الإمام أبي حنيفة نفسه رضي الله عنهم كما يأتي جميع ذلك. إذا علمت هذا فليس لحنفي يعتقد كراهة الذكر جهراً أو حرمته أن ينكر على من يعتقد استحبابه كشافعي أو جوازه كمن قلَّد مالكا لإي إحدى الروايتين عنه وأحمد بل وعلى حنفي حتى يعلم أنه لم يقلدْ القائل بجوازه أو استحبابه على أن دليل حرمة الجهر أو كراهته غير تامَّة ودلائل جوازه بل استحبابه تامَّة، فلنورد من الآيات والأحاديث والآثار ما يَسَّرَه الله مما يدلُّ على جواز الذكر جهراً بل على استحبابه بأنه للمرام وإزاحة لشبهات الأوهام، بتوفيق الله العليم العلام، ولنقدم بين يدي المطلب أصلا ينتفع به في المقصود بإذن الله النصير المعبود المحمود.
تمهيد
من المقرر في الأصول أن الآمر إذا أمر بفعل مطلق أي غير مقيَّد في اللفظ بقيد خاص كقوله اذكر من غير أن يقيده بكونه سرَّا أو جهراً، وقوله اضرب من غير أن يقيده بكونه مبرحاً وغير مبرح، فالمطلوب به الفعل الجزئي الممكن المطابق للماهية الكلية المشتركة أي فرد ما من الأفراد الممكنة لتلك الماهية لا نفس الماهية المشتركة الكلية، ولهذا قالوا صيغة الأمر لا يقتضي التكرار لأن مدلولها طلب الحقيقة الصادقة بأي جزئي كان والمرة والتكرار زائدان على الحقيقة خارجان عنها، فيجب أن يحصل الامتثال مع أيهما حصل ولا يتقيد بأحدهما دون الآخر، ومن المقرر أيضاً فيه أن المطلق ينقسم إلى حقيقي وإضافي والمطلق يشمل كلا منهما، فقولنا "رقبة مومنة"، مطلق بالنسبة إلى قولنا رقبة مومنة سليمة من العيوب، ومقيد بالنسبة إلى قولنا "رقبة" إذا تمهد هذا فنقول : كل أمر من الذكر في القرآن والأخبار إن ورد مقيدا بالجهر صريحاً أو التزاماً فهو نص في محل النزاع، وإن ورد غير مقيد بالجهر ولا بالسر سواء قيد بقيد آخر ككونه كثيراً، أو بكرة وأصيلا أو لا، فالامتثال حاصل بالجهر كما هو حاصل بالسرّ، لأن كُلًّا منهما من أفراد الذكر المطلق، والأمر بالمطلق أمر بفرد ما من أفراده الممكنة، والجهر من أفراده الممكنة عقلا الجايزة شرعا، أما الأول فظاهر، وأما الثاني فثابت بالدليل من الكتب والأخبار والآثار، فمنها ما يدل على أن الجهر مأمور به في وقت معين، ومنها ما يدل على أنه مشروع مأمور به مطلقا، أما الأول فمنها قوله تعالى : {فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا}وجه الدلالة أن العرب كانوا يتفاخرون في المواسم فيذكرون فعال آبائهم وأيامهم ومجالسهم، ولا شك أن ذلك كان بالجهر إذ التفاخر لا يحصل إلا بالاسماع وهو ظاهر، وقد أمروا أن يذكروا الله كذكر آبائهم وأشد، فكان أمرا بالجهر التزاماً وقد امتثلوا الأمر على هذا الوجه، فقد أخرج البيهقي عن عبيد بن عميران أن عمر رضي الله عنه كان يُكَبِّر في قبته بِمِنَى فيسمعه أهل المسجد فيكبرون بتكبيره، فيسمعهم أهل السوق فيكبرون بتكبيرهم حتى ترتج منى تكبيراً، قال الحافظ ابن حجر رحمه الله في "نتائج الأفكار بتخريج أحاديث الأذكار" هذا موقوف صحيح علقه البخاري بالجزم قال : وكان عمر فذكره، وقال بعده : وكان ابن عمر يكبر بمنى تلك الأيام خلف الصلوات وعلى فراشه وفي فسطاسه ومجلسه ومَمُشاة تلك الأيام جميعاً، وهذا أخرجه ابن المنذر في "الكتاب الكبير" والفاكهي في "كتاب مكة" كلاهما من طريق ابن جريج عن نافع وسنده صحيح، ونقل ابن المنذر عن الربيع عن الشافعي نحو ذلك. وأخرج البيهقي عن تميم بن سلمة قال : (خرج عبد الله بن الزبير رضي الله عنهما يوم النحر فلم يرهم يكبرون فقال : مالهم لا يكبرون لقد رأيتنا في العسكر ما يُرى طرفاه فيكبر الرجل فيكبر الذي يليه حتى يرتجُّ العسكر تكبيراً) قال الحافظ ابن حجر هذا موقوف صحيح وأخرج البيهقي عن عمر وبن دينار قال : (سمعت ابن العباس رضي الله عنهما يكبر يوم الصدر ويأمر من حوله أن يكبروا فما أدري تاول قوله تعالى : {وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَّعْدُودَاتٍ}وقوله تعالى : { فَإِذَا قَضَيْتُمْ مَنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّه}قال الحافظ ابن حجر موقوف صحيح أخرجه مسدد بن سفيان ووقع في روايته يوم النفر)انتهى.