ثمَّ شرعَ في بيان ذلك كما سننقل كلامه بأجمعه شيئاً بعد شيء في محاله إن شاء الله تعالى. وأمَّا ما جعل للتوبة من المقدمات والمتمِّمات فسيأتي إن شاء الله تعالى ولنقدم أمام الشروع في المقصود الشبيه على شيئين:
الأوَّل : أنَّ الناظم رضي الله عنه لم يذكر في أوّل قصيدته البسملة والحمدلة، وقد وردت الأحاديث في الحثّ على بدء الأشياء بالحمد والبسملة أو ذكر الله مُطلقاً على حسب ما ورد في خبر رواه أبو داوود والنسائي وابن ماجة وأبو عوانة وابن حبَّان والبيهقي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : (كُلُّ كَلَامٍ لَا يُبْدَأُ فِيهِ بِالْحَمْدِ فَهُوَ أَقْطَعْ بَلْ أَجْذَمُ) وهذا لفظ أبي داوود ولفظُ النسائي وابن حبّان : (كل أمر ذي بال لم يبدأ فيه بذكر الله فهو أقطع) رواه النسائي عن الزهري مرسلاً بلفظ : (كل كلام لا يبدأ فيه بذكر الله فهو أبتر) قال والمرسل أولى بالصَّواب. ووقع في الأربعين للحافظ الرَّهاوي بلفظ : (لا يبدأ فيه ببسم الله الرحمن الرحيم فهو أقطع) وله أيضاً : (لا يبدأ فيه بحمد الله والصلاة على محمد فهو أقطع أبتر ممحوق من كل بركة) قال ابن حجر هذا الحديث أخرجه أبو عوانة في صحيحه وصحَّحه ابن حبَّان أيضاً في إسناده فقال : (وعلى تقدير صحته فالرواية المشهورة فيه بلفظ بحمد الله وما عدى ذلك من الألفاظ وردت في بعض طرق الحديث بأسانيد واهية) على أنَّ ابن الصّلاح وغيره قد حكم على هذا الحديث بالحسن، ولعلَّ الناظم رضي الله عنه لشدَّة تعطُّشه إلى ذكر ما بَيْنَ المَسالك ومحبة سرعة الائتمار للوارد الآمِر بذلك، شرع في مقصود مِن أوّل وَهلة مكتفياً بحمد الله في نفسه، لكونه إذ ذاك كان بحكم وقته إمّا مأخوداً عن نفسه مقتطعاً عن دائرة حسِّه ناطقاً لِما بلسانهِ مسطراً لِما ببنانه، ومَن كان كذلك فلا تسلط لشيء من تلك الأحاديث عليه ولا حقّ لها ثابتاً لديه، كأنّ التكليف مشروط بقدرة الاكتساب والحكم كما يتوجّه ما لم توجد الشروط والأسباب، على أنَّ ظاهر ما ورد من الأحاديث ليس فيه ما يقتضي أنه كابرَ من كتب الحمد المبتدأ به على صفة ما أريد الشروع فيه من نظمٍ أو نثرٍ أو سمعٍ، بل الظاهر أن حمده باللسان يكتفي به وكتبه على غير صفة المقصود كذلك كان يكتب لفظ الحمد لله ثمَّ يشرع في نظمٍ أو سجع والظن بالنّاظم كذلك فحل.
الثاني : أني لما رأيت هذه القصيدة متحضِّرة النظم غاية، وتراكيبها مفخرة ونهاية، ورأيتُ مع ذلك، أي أكثر متعاطيها أرباب قلوب ومعاني، لا اعتناء لهم ولا استعداد لتحقيق المباني، حتى كثَرَ في متنها بسبب ذلك التخليط، ارتكبت فيها طريقاً عدلا بين الافراط والتفريط، فضبطتُ بعض ألفاظها وأعربتُ جُلَّ تراكيبها، وقدّرت غالب غالب أبياتها تقديراً، رددت فيه شواردها إلى مَعَاطِنِهَا وعقالتها ليكون ذلك تميمة لها من حمى التحريف، ورقية من لسع عقرب التصحيف، وإلاَّ فإدخال ذلك في كتب التصوف عسيف، وبرهنتُ على تحيين مقصود بويتات من متشابهها كي لا يتسلط أهل التشديق فيحملونها ما لا تطيق، وإعانة لمن طلب التحقيق والله ولي التسديد والتوفيق والله المستعان وعليه الاتكال.