ولمَّا كانت التوبة مبدأُ طريق السالكين ورأس منال الفائزين وأوَّل أقداح المريدين، ومفتاح استقامة المائلين، ومطلع الاصطفاء والاجتباء للمقربين وجب تقديمها.
ولمَّا كانت أيضاً لا بدَّ في ابتدائها من وجود زاجر بدأ فقال رضي الله عنه :
إذا مَا بَدا مِنْ بَاطِنٍ حالةُ الزَّجْرِ ... فَمَا هُوَ إلَّا البِرُّ مِنْ مِنَحِ البِرِّ
إذ ظرف مستقبل خافض لشرطه منصوب بجوابه وما بعده زائدة على القاعدة "وبدا" أي ظهر، وفي بعض النسخ "بدت" بالتأنيث ولا كلام على هذه النسخة لأنَّ فاعله مؤنث وما في الأصل فصيح أيضا كما نُبيِّنه إن شاء الله تعالى. كأنه وإن كان فاعله مؤنثا فليس بضمير ولا حقيقي التأنيث والتاء إنما تلزم فيهما وعلى تقدير لزومها مطلقاً فالمضاف قد يكتسب التذكير من المضاف إليه كقوله :
رُؤْيَةُ الفِكْرِ مَا يَؤُولُ لَهُ الأَمْـ ...... ـرُ مُعِينٌ عَلَى اجْتِنَابِ التَّوَانِي
ولمَّا لم يكن كلامَه مع شخصٍ معيَّن قال : "مِن باطنٍ" بالتنكير، أي من باطن البواطن وَ"مِنْ" فِي كَلامِهِ يُحْتَمَلُ أَنَّهَا بِمَعْنَى فِي، عَلَى حَدِّ قَوْلِهِ تَعَالَى: ﴿ِ منْ يَوْمِ الجُمُعَةِ﴾.وهو موافق للفظ العوارف. وَيُحْتَمَلُ أنَّهَا عَلَى بَابِهَا مِنِ ابْتِداءِ الغَايَةِ، وَيَكُونُ انْتِهَاؤُهَا ظُهورُ تِلْكَ الحَالَةِ عَلَى ظَاهِرِ العَبْدِ، لِأَنَّ ظُهُورَ ذَلِكَ الزَّاجِرِ لِبَاطِنِ العَبْدِ مَا لَمْ يَظْهَرْ عَلَى ظَاهِرِهِ أَثَرُهُ مِنَ الاِنْزِجارِ وَ الاِنْكِفَافِ لَا عِبْرَةَ بِهِ. وحالة الزجر فاعل "بدا" ولم يؤنث فعله مع أنه مؤنث لأنه مجازى التأنيث، كما يجب تأنيث الفعل معه، على أن مثل هذا التركيب لا يجب تأنيث الفعل فيه، ولو كان الفعل فيه ولو كان الفعل حقيقي. الثانية للفصل بينه وبين الفعل على أنه لو لم يكن بينهما فصل ما وجب التّأنيث أيضا في مثل هذا لإضافة الفاعل المؤنث لمؤكِّدٍ فيكتسب منه التذكير على حد قول الشاعر :
إنارة العقل مكسوف بطوع هوى … وعقل عاصي الهوى يزداد تنويرا
وقول آخر :
رُؤْيَةُ الْفِكْرِ مَا يَؤُولُ لَهُ الْأَمْــ ...رُ مُعِينٌ عَلَى اجْتِنَابِ التَّوَانِي