ثم ذكر الشيخ مطلوبَهُ بالنِّداء فقالَ : (اسْمَعْ نِدَائِي) سَمَاع قبول، أي أجِبْ دعائي. (بِمَا سَمِعْتَ) : أأي بالوجِهِ الذي سَمعتَ (بِهِ نِدَاَء عَبْدِكَ زَكَرِيَاءَ)؛ وهو سُرعة الإجابة، على وجهِ خرقِ العادَةِ، فقد وهبَ لهُ ولداً من صُلبِهِ، مع يَأسِ أهلِهِ، وكِبَرِ سِنِّهِ، وفيه إشارة لطلب الوارث الرُّوحاني، فكأنَّ الشيخ خافَ أن ينقطعَ الانتفاع بهِ بعدَ موتهِ، حيثُ لمْ يترك وارِثاً لسرِّه، فأجابَ اللهُ دعاءَهُ، بأبي الحسن الشاذلي، فأخدَ سِرَّهُ، ونشرهُ في المشرقِ والمغرِبِ، فقد انتشرت الطريقة الشاذلية، انتشار الشمسِ في أُفقِ السَّماءِ، وكثر أتباعها شرقاً وغرباً، كل ذلكَ في صحيفةِ الشيخ رضي الله عنه، والمرءُ في ميزانِهِ أتباعُهُ. فَاقْدُرْ بِذلكَ النبيّ محمَّد صلى الله عليه وسلم. ثمَّ كَمَّلَ مطلوبَهُ فقالَ : (وَانْصُرْنِي) : أي قَوِّنِي وأَعِنِّي في الظَّاهر بك، لا بولسطة شَيء لأكون عبداً خالصاً لكَ؛ لأنَّ النَّصرَ إذا كانَ بواسطةٍ، رُبَّما تَميلُ النَّفسُ إلى محبَّةِ الواسطةِ، فتُحجبُ عَنِ المَوسُوطِ، بخلافِ ما إذا كانَ بلا واسِطَة، أوْ غائِباً عنها، كانَ عبداً حقيقياً، لانحصار المحبَّة في النَّاصر الحقيقي. (وَأَيِّدْنِي) أيْ قَوِّنِي في الباطنِ (بِكَ) لا برُؤيةِ غيرِكَ (لَكَ) : أيْ لأكونَ عَبْداً خالِصاً لكَ، فتقرَّر، أنَّ النَّصْرَ في الظَّاهر، بموافقة الأسباب، والتَّأييد في الباطن، بِرَفعِ الحِجابِ، ومُوافقةِ الصًّوابِ. وقيل : النَّصْر والتَّأييد مُترادفانِ، والجمع بينهما تفنُّن في العبارةِ. والتحقيق : الأوَّلُ. ويُوافق النَّصر : الهداية ويوافق التأييد : التوفيق. والحاصل : أنَّ النَّصرَ والهداية والتأييد والتوفيق محلّها القلوب. لكن النصر والهداية، يظهر أكثرهما على الجوارح الظَّاهرة. فتهدي إلى الطهارة والاستقامة، وتقوِّي على المُواظبة على العبادة. والتأييد والتوفيق : يظهر أثرهما على العوالم الباطنية، فتتخلَّى عن الرَّذائلِ، وتتحَلَّى بأنواع الفَضائل؛ التي هي مكارم الأخلاقِ، والرِّضى والتَّسليم، والمحبَّة والمعرفة. وغيرَ ذلكَ ممَّا تقدَّم ذِكرُهُ. والله تعالى أعلم.