ثم ذكر ثمرةَ النَّصر، والتأييد؛ وهو الحمع على الله، والغيبةُ عمَّا سواهُ، على سبيل الاستغراقِ والدَّوام فقال : (واجْمَعْ بَيْنِي وَبَيْنَكَ) طلبَ دوامَهُ واتِّصالهُ، وإلاَّ فالجمعُ حاصلٌ لهُ، فهوَ كقولِهِ تعالى : {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ}والجمع : شهود الربوبية متصلةً على الدَّوام. والفَرْقُ : شهود العبودية مُنفصلةً على الدوامِ. أو تقول : الجمعُ شهود القدرة وحدها. والفرقُ : شهود الحِكمة وحدَهَا. فأهلُ الجَذْبِ والفَناءِ لا يشهدون إلاّ الجمعَ، وأهل السلوك قبل رفع الحجاب، لا يشهدون إلاّ الفرقَ، وأهلُ البقاء يشهدون الجمع في عَيْنِ الفَرْقِ. والفَرق في عَين الجَمع، فهُم مجمُوعُون في فرقِهِمْ. مَفْروقون في جمعهم، ولا فرقهم عن جَمعهمْ، رضي الله عنهم.
ولمَّا طلبَ الجمع على الدَّوامِ، طلبَ نَفْيَ ضِدَّهُ؛ وهو الفرقَ فقالَ : (وَحُلْ بَيْنِي وبَيْنَ غَيْرِكَ). شهود غيرك : هو الغفلة عن المعرفة. وإلاّ فلا غيرَ. فكأنه طلبَ الحَيْلُولَة بينهُ وبينَ الغَفلَة؛ التي تُثْبِتُ الغيرية، أو الحيلولة بينهُ وبينَ الوهمِ، إذْ هوَ الذي يُثبِتُ الغيرية، ولقد سمعت شيخَنا البُوزيدي رضي الله عنه كثيراً ما يقول : "والله مَا حجبَ النَّاسَ عَنِ الله إلاَّ الوَهْمُ، والوهمُ أمْرٌ عَدَمِيٌّ لَهُ لاَ حَقيقةَ لهُ". يعني أنهم توهَّموا وجود السِّوى، ولا وجود للِسِّوى. (الله) هذا التحقيق للجمع الذي طلبَ. وحذف النداء لدلالته على البُعد، ولا بُعد مع الجمعِ. وكرَّرَ (الله) ثلاثة، على عدد العوالم الثلاثة، "المُلْكُ، والمَلَكُوتُ، والجَبَرُوتُ". فكلُّ مرَّةٍ يفنَى بها عالَماً، ويرتقي إلى آخرَ. حتى يستقرَّ بالثَّالثَةِ : في عالَمِ الجَبَرُوت. فإذا قال : الله أوَّلاً، أفنَى عالَم المُلْكِ، وإذا قالَها ثانياً، أفنى عالَمَ المَلَكُوتِ، وإذا قالها ثالثاً، خافَ الجبروت، واستقرَّ فيه، وسمعتُ شيخنَا رضي الله عنه يقول : إذا قال الإنسان : الله، قصَم به الكوْن كلَّهُ إذا تلقَّاهُ من الشيخ. والقَصْمُ : الهلاكُ والذَّهابُ.
وكان شيخ شيوخنا سيِّدي علي يقول : ما ظنَّ أحد، أنَّ الكون يذوب إذا ذكر اسم الله عليه. قلت : وما قاله الشيخان رضي الله عنهما صحيحٌ، فإذا قلتَ : الله، وتوجَّهت بقلبك إلى الكَوْنِ، من العَرشِ إلى الفَرْشِ، ذابَ وتلاشَى، ولم يبقَ لهُ أثَرٌ، فجزاهما الله عنا خيراً. ويؤخد من تكرار الشيخ لهذا الاسم العظيم، جواز تكرار هذا اللفظ، والاقتصار عليه في الذِّكر؛ وهو التحقيق، خِلافَ ما ذكر الحطاب، عن عزِّ الدِّين بن عبد السلام، ولعلَّهُ قبل أن يلتقي بالشيخ، وفي المسألة ثلاثة مذاهب : الجواز مُطلقاً في البداية والنهاية. والمنع مطلقاً. والتفصيل يجوز في النهاية، ولا يجوز في البداية، والمشهور الأول. قال في لطائف المنَنِ : وكانَ الشيخ أبو العباس المرسي رضي الله عنه يَحُضُّ عليه كثيراً، ويقول : هو سلطان الأسماء. وقال اليوسي : ثمرة هذا الاسم، معرفة الذات، وقد تولاّه أبو الحسن النُّوري، فبقي أيَّاماً يقول : الله. الله. الله. لا يفتر، ولا يأكل، ولا يشربُ، فذكرَ ذلك للجُنَيد، فقال لهُ : إن كنتَ تقوله بنفسكَ فأنتَ مشرِكٌ، وإن كنتَ تقوله بالله فلستَ أنتَ القائِلَ. فما هذا التَّوَلُّهُ ؟ فَسَكَتَ. وقالَ : نِعمَ الطبيبُ أنتَ.