آخر الأخبار

جاري التحميل ...

طرق الصوفية / الإمام الغزالي

وكانت حوادث الزمان، ومهمات العيال، وضرورات المعيشة، تغير في وجه المراد، وتشوش صفوة الخلوة، وكان لا يصفو لي الحال إلا في أقوات متفرقة. لكني مع ذلك لا أقطع طمعي منها، فتدفعني عنها العوائق، وأعود إليها.



ودمت على ذلك مقدار عشر سنين، وانكشفت لي في أثناء هذه الخلوات أمور لا يمكن إحصاؤها واستقصاؤها، والقدر الذي أذكره لينتفع به. إني علمت يقيناً أن الصوفية هم السالكون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرتهم أحسن السير، وطريقهم أصوب الطرق، وأخلاقهم أزكى الأخلاق، بل لو جمع عقل العقلاء، وحكمة الحكماء، وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء، ليغيروا شيئاً من سيرهم وأخلاقهم، ويبدلوه بما هو خير منه، لم يجدوا إليه سبيلاً. فإن جميع حركاتهم وسكناتهم، في ظاهرهم وباطنهم، مقتبسة من نور مشكاة النبوة، وليس وراء نور النبوة على وجه الأرض نور يستضاء به.

وبالجملة، فماذا يقول القائلون في طريقة، طهارتها - وهي أول شروطها - تطهير القلب بالكلية عما سوى الله تعالى، ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة، استغراق القلب بالكلية بذكر الله، وآخرها الفناء بالكلية في الله؟!


وهذا آخرها بالإضافة إلى ما يكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها. وهي على التحقيق أول الطريقة، وما قبل ذلك كالدهليز للسالك إليه. ومن أول الطريقة تبتدئ المكاشفات والمشاهدات، حتى أنهم في يقظتهم يشاهدون الملائكة، وأرواح الأنبياء ويسمعون أصواتاً ويقتبسون منهم فوائد. ثم يترقى الحال من مشاهدة الصور والأمثال، إلى درجات يضيق عنها النطق، فلا يحاول معبر أن يعبر عنها إلا اشتمل لفظه على خطأ صريح لا يمكنه الاحتراز عنه.


وعلى الجملة، ينتهي الأمر إلى قرب، يكاد يتخيل منه طائفة الحلول، وطائفة الاتحاد، وطائفة الوصول، وكل ذلك خطأ. وقد بينا وجه الخطأ فيه في كتاب المقصد الأسنى. بل الذي لابسته تلك الحالة لا ينبغي أن يزيد على أن يقول:


وكان ما كان مما لستُ أذكرهُ ... فظنَّ خيراً ولا تسأل عن الخبرِ


وبالجملة فمن لم يرزق منه شيئاً بالذوق، فليس يدرك من حقيقة النبوة إلا الاسم، وكرامات الأولياء، هي على التحقيق، بدايات الأنبياء. وكان ذلك أول حال رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أقبل إلى جبل حراء حيث كان يخلو فيه بربه ويتعبد، حتى قالت العرب: إن محمداً عشق ربه.


وهذه الحالة، يتحققها بالذوق من يسلك سبيلها. فمن لم يرزق الذوق، فيتيقنها بالتجربة والتسامع، وإن أكثر الصحبة، حتى يفهم ذلك بقرائن الأحوال يقيناً. ومن جالسهم، استفاد منهم هذا الإيمان فهم القوم لا يشقى جليسهم. ومن لم يرزق صحبتهم فليعلم إمكان ذلك يقيناً بشواهد البرهان، على ما ذكرناه في كتاب عجائب القلب من كتب إحياء علوم الدين. والتحقيق بالبرهان علم، وملابسة عين تلك الحالة ذوق، والقبول من التسامح والتجربة بحسن الظن إيمان.

فهذه ثلاث درجات: {يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ}. ووراء هؤلاء قوم جهال، هم المنكرون لأصل ذلك، المتعجبون من هذا الكلام، ويستمعون ويسخرون، ويقولون: العجب! إنهم كيف يهذون! وفهيم قال الله تعالى: {وَمِنْهُم مَّن يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّىٰ إِذَا خَرَجُوا مِنْ عِندِكَ قَالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مَاذَا قَالَ آنِفًا أُولَٰئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَاتَّبَعُوا أَهْوَاءَهُمْ}{فَأَصَمَّهُمْ وَأَعْمَىٰ أَبْصَارَهُمْ}.


ومما بان لي بالضرورة من ممارسة طريقتهم، حقيقة النبوة وخاصيتها ولا بد من التنويه على أصلها لشدة مسيس الحاجة إليها.

المنقذ من الضلال

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية