آخر الأخبار

جاري التحميل ...

التَّصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق / زكي مبارك

التَّصوف الإسلامي في الأدب والأخلاق / زكي مبارك

المراد من التصوف

ولكن هل التصوف الذي أعرفه اليوم هو التصوف الذي عرفته من قبل؟ هيهات!
لقد كنت أعرف التصوف موصولًا بإشارات ورسوم وتقاليد، فعدت لا أعرفه إلا في القلب والروح، وأمست التقاليد تخيفني وترهبني؛ لأنها علامة زَهو واستطالة وكبرياء.
كنت أقول مع الغزالي: «التصوف أمر باطن لا يُطَّلَعُ عليه، ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته، بل بأمور ظاهرة يعول عليها أهل العرف في إطلاق اسم الصوفي، والضابط الكلي أن كل من هو بصفة إذا نزل في خانقاه الصوفية لم يكن نزوله فيها واختلاطه بهم منكرًا عندهم فهو داخل في غمارهم، والتفصيل أن يلاحظ فيه خمس صفات: الصلاح، والفقر، وزي الصوفية، وألا يكون مشتغلًا بحرفة، وأن يكون مخالطًا لهم بطريق المساكنة».

ثم تبينت أن هذا التعريف يقفني عند شخصية «الدرويش»، وعقلية الدرويش تستحق الاهتمام، ولكن من الخطأ أن تكون كل شيء في التصوف؛ لأنها شخصية ضعيفة، قليلة الأثر في الأدب والأخلاق.

على أن الغزالي نفسه لم يجعلها محور التصوف، بل نص على أن التصوف أمر باطن لا يطلع عليه، ولا يمكن ضبط الحكم بحقيقته، فهو يتصور أن للتصوف حقيقة غير التي درج عليها أهل العرف والاصطلاح.

والحق أن الغزالي لم يقل كلمته هذه إلا في سياق كان يوجب تضييق الحدود وهو بيان الشخصية التي يصرف إليها المال الذي ينص على أنه موهوب للصوفية، وشخصية الدرويش هي الشخصية الصالحة لأخذ الهبات والصدقات.
وقديمًا حار الناس في تعريف التصوف، وتشعبوا فيه إلى مئة رأي بل زادت أقوالهم في ماهيته على ألف قول، وفي ذلك مخلص لمن يريد أن يقف به عند معنى خاص، كأن يقول: «التصوف هو كل عاطفة صادقة، متينة الأواصر، قوية الأصول، لا يساورها ضعف، ولا يطمع فيها ارتياب».
وهذا التعريف قريب من قول أبي علي الروذباري: «التصوف الإناخة على باب الحبيب وإن طرد عنه»،  وقول الجُنَيد وقد سئل عن التصوف: هو أن يميتك الحق عنك ويحييك به.

وكيف يقصر التصوف على أصحاب الرسوم والأشكال وهو من رسوم القلوب وأشكال الأرواح؟!

إن التصوف خليق بأن يصحب كل نزعة شريفة من النزعات الوجدانية، والأساس أن يكمل الصدق ويسود الإخلاص بحيث لا تملك النفس أن تنصرف عما آمنت به واطمأنت إليه في عالم المعاني، وكذلك يتمثل التصوف في صور كثيرة: فيكون في الحب، ويكون في الولاء، ويكون في السياسة حين تقوم على مبادئ تتصل بالروح والوجدان.

ومن شواهد التصوف في الحب قول جميل:

وإني لأرضى من بثينة بالذي                    لَو أبصره الواشي لقرت بلابله
بلا، وبأن لا أستطيع وبالمنى                  وبالأمل المرجوِّ قد خاب آمله
وبالنظرة العَجْلَى وبالحول تنقضي     أواخره لا نلتقي وأوائله

فهذا «الزهد» في الوصل تصوف، وإن لم يذكر اسم صاحبه بين أسماء الصوفية، وإنما كان الزهد تصوفًا؛ لأنه من دلائل الصدق وقوة العلاقة الروحية.

وهل يمتري أحد في روح التصوف حين يقرأ هذا الشعر المنسوب إلى قيس بن الملوح:

وأحبس عنك النفس والنفس صبة          بذكراك والممشى إليك قريب
 مخافة أن يسعى الوشاة بظِنَّةٍ              وأحرسكم أن يستريب مريب
    لقد جعلت نفسي وأنت اخترمتها       وكنت أعز الناس عنك تطيب
فلو شئت لم أغضب عليك ولم يزل       لك الدهر مني ما حييت نصيب
    أما والذي يبلو السرائر كلها           ويعلم ما تبدي به وتغيب
لقد كنت ممن تصطفي النفس خُلَّةً        لها دون خلان الصفاء حُجُوب

فما رأيكم في هذا «التوحيد» في الحب؟ ألا ترونه من التصوف؟ فإن لم يكن هذا الترفق تصوفًا فما عساه أن يكون؟

وهل تذكرون هذه الأبيات:

لو جزَّ بالسيف رأسي في مودتكم         لمر يهوي سريعًا نحوكم رأسي
ولو بلي تحت أطباق الثرى جسدي      لكنت أبلى وما قلبي لكم ناسي
أو يقبض الله روحي صار ذكركم       روحًا أعيش به ما عشت في الناس
لولا نسيم لذكراكم يروحني               لعدت محترقًا من حر أنفاسي

فأين تجدون ظلال المادة في هذه الأبيات؟ أليست ضريمًا من قبس الروح؟ فكيف لا تكون من التصوف في الحب؟

وهل تذكرون ابن الدمينة؟ إن ذلك الشاعر لمن أقدم الصوفية في عالم الحب، ومع ذلك لم أجد من تنبه إلى ما في شعره من نفحات التصوف، وكيف ينكر صفاء الروح على من يقول:

وإني لأستحييك حتى كأنما            عليَّ بظهر الغيب منك رقيب
ولو أن ما بي بالحصا فلق الحصا    وبالريح لم يسمع لهن هبوب
ولو أنني أستغفر الله كلما              ذكرتك لم تكتب علي ذنوب

•••
بنفسي وأهلي من إذا عرضوا له     ببعض الأذى لم يدر كيف يجيب
ولم يعتذر عذر البريء ولم يزل     به سكتة حتى يقال: مريب
لقد ظلموا ذات الوشاح ولم يكن      لنا في هوى ذات الوشاح نصيب
يقولون: من هذا الغريب بأرضنا    أما والهدايا إنني لغريب
غريب دعاه الشوق واقتاده الهوى   كما قيد عود بالزمام أديب
ألا لا أبالي ما أجنَّت صدورهم      إذا نصحت ممن أودُّ جيوب

•••
يثاب ذوو الأهواء غيري ولا أرى      أميمة مما قد لقيت تثيب
ألا ليت شعري عنك هل تذكرينني     فذكرك في الدنيا إلي حبيب؟
وهل لي نصيب في فؤادك ثابت       كما لك عندي في الفؤاد نصيب؟
فلست بمتروك فأشرب شربة          ولا النفس عما لا ينال تطيب
فلا خير في الدنيا إذا أنت لم تزر     محبًّا ولم يطرب إليك حبيب

وكيف ينكر الصدق في الحب على من يقول:

ليهنك إمساكي بكفي على الحشا       وإذراء عيني دمعها في زيالك
ولو قلت: طأ في النار أعلم أنه        هوًى منك أو مدن لنا من وصالك
لقدمت رجلي نحوها فوطئتها         هوًى منك لي أو غية من ضلالك
أرى الناس يرجون الربيع وإنما     ربيعي الذي أرجو جدًّا من نوالك
أبيني، أفي يمنى يديك جعلتني        فأفرح أم صيَّرتني في شمالك
لئن ساءني أن نلتني بمساءة          لقد سرني أني خطرت ببالك

ولكن، هل معنى هذا أن كل محب صادق الحب يضاف إلى الصوفية ؟

لا. فلو فعلنا ذلك لكان أكثر الشعراء من أرباب التصوف، وإنما نقصر هذا الوصف على من وقف قلبه عند هوًى واحد، فالمجنون متصوف، والعباس بن الأحنف متصوف؛ لأن المجنون صورته القصة رجلًا لا يعرف في الدنيا غير ليلاه، والعباس يشهد شعره بأنه وقف هواه على «فوز» وشارف حدود الفناء في الحب حين قال:

إذا لم يكن للمرء بد من الردى       فأكرم أسباب الردى سبب الحب
ولو أن خلقًا كاتم الحب قلبه          لمت ولم يعلم بحبكمو قلبي

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية