واعلم أن مقدمات التوبة ثلاث :
أحدها : ذكر غاية قبح الذنب.
والثانية : ذكر شدة عقوبة الله سبحانه وأليم سخطه وغضبه الذي لا طاقة لك به.
الثالثة : ذكر ضعفك وقلة حيلتك في ذلك، فإن من لا يحتمل حر شمس ولطمة شُرَطي وقرص نملة، كيف يحتمل حرّ نار جهنَّم وضرب مقامع الزبانية ولسع حيَّات كأعناق البُخت، وعقارب كالبغال خلقت من النار في دار الغضب والبوار، نعوذ بالله ثم نعوذ بالله من سخطه وعذابه، فإذا واظبتَ على هذه الأذكار وعاودتها آناء الليل وأطراف النهار فإنها ستحملك على التوبة النصوح من الذنوب والله الموفق.
فإن قيل : أليس قد قال النبي صلى الله عليه وسلم : (الندم توبة) ولم يذكر مما ذكر ثم وشددتم شيئاً ؟ يقال له : اعلم أولاً أنَّ الندم غير مقدور للعبد، ألا ترى أنه تقع الندامة عن أمور في قلبه وهو يريد ألا يكون ذلك، والعلم أن المراد بالندم الندم لتعظيم الله وهيبة جلاله، لا للخوف على ذهاب جاهه عند الناس وماله في النفقة عليها، فإنَّ ذلك ليس بتوبة قطعاً. فعلمتَ بذلك أن في الخبر معنى لم تفهمه من ظاهره وهو الندم لتعظيم من عصيته عز وجل، وذلك مما يبعث على التوبة النصوح وهو من صفات التائبين وحالهم.
فإذا فكر المريد في الأذكار الثلاثة التي هي مقدمات التوبة يندم ويحمله الندم على ترك اختيار الذنب، وتبقى ندامته في قلبه في المستقبل فتحمله على الابتهال والتضرع، فلمَّا كان ذلك من أسباب التوبة وصفات التائب سمَّاه باسم الندم فافهم ذلك موفقاً إن شاء الله تعالى.
فإن قلتَ : كيف يمكن الإنسان أنه يصير بحيث لا يقع منه ذنب البتة من صغير أو كبير كيف وأنبياء الله صلوات الله عليهم أجمعين الذين هم أشرف خلق الله قد اختلف أهل العلم فيهم هل نالوا هذه الدرجة أم لا ؟
فاعلم أن هذا أمر ممكن غير مستحيل والله يختص برحمته من يشاء.
ثم من شروط التوبة أن لا يتعمَّد ذنباً، فإن وقع منه بسهوٍ أو خطإ فهو معفو عنه بفضل الله تعالى وهذا هيِّن على من وفَّقه الله.
فإن قلتَ : إنما يمنعني من التوبة أني أعلم من نفسي أني أعوذ إلى الذنب ولا أثبت على التوبة فلا فائدة في ذلك.
فاعلم أن هذا من غرور الشيطان ومن أين لك هذا العلم، وعسى أن تموت تائباً قبل أن تعود إلى الذنب، وأما الخوف من العود فعليك العزم والصدق في ذلك وعليه الإتمام، فإن أتمَّ فذاك وإن لم يتم فقد غفرت الذنوب السالفة وتخلَّصتَ منها وتطهَّرتَ وليس عليك إلا هذا الذنب الذي أحدثته الآن، وهذا هو الربح العظيم والفائدة العظيمة الكبيرة، فلا يمنعك خوف العود عن التوبة فإنك من التوبة أبداً بين إحدى الحسنيين والله ولي التوفيق والهداية.