مقدمة
اعلم أيها المريد، الموفق السعيد، أن القوم أجمعوا على أن المجاهدة لا بد منها في سلوك طريق الأخيار، الذين حسناتهم سيئات عند الأبرار، مستدلين لذلك بالكتاب والسنة، ونادبين لفعلها بعبارات أفيضت عليهم من غيث المنة، أما الكتاب قوله تعالى :{وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا}وقوله تعالى : {وَمَن جَاهَدَ فَإِنَّمَا يُجَاهِدُ لِنَفْسِهِ}وقوله تعالى : {وَجَاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهَادِهِ}وقوله تعالى : {فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً}وأمَّا السنة فقوله صلى الله عليه وسلم : (اعْمَلُوا فَكُلٌّ مُيَسَّرٌ لِمَا خُلِقَ لَهُ) وقوله عليه الصلاة والسلام : (رَجَعْنَا مِنَ الجِهَادِ الأَصْغَر إلى الجهاد الأكبر، قيل : يا رسول الله وما الجهاد الأكبر ؟ قال : الجهاد في النفس) فالمجاهدة هي حصول المشقة والتعب في حال السلوك، فمن وجد مشقة ونصباً قيل له مجاهدة، ومن لم يجد ذلك كان عاملاً لا مُكابِداً، فإن المجاهدة مكابدة، قال الله تعالى : {إِنَّ اللَّهَ اشْتَرَىٰ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم} الآية، ثم أمرهم بالجهاد فكان جهادهم في نفوس عارية عندهم، فمن تحقق بهذا المعنى لم يجد مشقة للمجاهدة إلاّ من حيث ظاهره، وأمَّا من حيث باطنه فهو مستريح من العنا، فإن قال قائل : أن جميع أفعال العباد مخلوقة للرب، فكيف يتصنع العبد بأن يجاهد ويكابد مع أنه لا فعل له ؟ قلنا : إنَّ الله تعالى لما أمر عباده بإقامة نواميس حدوده وكلفهم بها، جعل لهم جزءاً اختياريًّا به يتصرَّفون، ولولا ذلك ما ثبت لهم ثواب ولا حق عليهم عقاب، فإذا علم العبد أنه مكلف بالطاعة وجب عليه المبادرة لها من غير أن يقول : إن كان الله قد قدَّر علي بطاعة فإني سأفعلها رغماً عني، أو بمعصية فكذلك، فإن هذا من الوساوس الشيطانيَّة، فإن الحق تعالى لما أمر عباده بالعمل لم يبق لهم حجة بل لله الحجة البالغة إذا لم يؤدُّوا ما كُلِّفوا به. وقد جعل سبحانه وتعالى لقبضة السعادة أهلا ولقبضة الشقاوة أهلا، فإذا تحرك صاحب قبضة السعادة جاءته العناية الأزلية وسارت به على فلك التقريب إلى ما فيه سعادته الأخروية، وإذا تحرك صاحب قبضة الشقاوة جاءته الوساوس الشيطانية وقطعته عن إدراك الرتبة العلية، كل ذلك بمحض التقدير والإرادة الكائنة في اللوح المحفوظ من النقص والزيادة.
فالطاعة به والعصيان لكن لا يرضى بالمعصية من الإنسان، ولا ينبغي للعبد في حال عصيانه أن يفرَّ إلى القضاء والقدر، فإنه سوء أدب بل يسرع بالتوبة والاستغفار، ويلوم نفسه على ما صدر منه ويتجنب الإصرار.