يُعد الخطاب الروحي الصوفي نوعا من أنواع الخطابات الدينية التي تهدف إلى الوعظ والإرشاد والتأمل في الحقائق الكونية الكبرى، ويستمد الخطاب الروحي الصوفي كغيره من الخطابات الدينية فحواه من مصادر الشريعة الإسلامية، وعلى وجه الخصوص القرآن الكريم والسنة النبوية، قال الجنيد: «الطرق كلها مسدودة على الخلق إلا على من اقتفى أثر الرسول عليه الصلة والسلم.» وقال أيضا: «من لم يحفظ القرآن، ولم يكتب الحديث، لا يقتدي به في هذا الأمر لأن علمنا هذا مقيد بالكتاب والسنة.» وِسير الصحابة والزهاد والصالحين وكتب المتأخرين للاقتداء بالأولين.
لقد امتاز الخطاب الصوفي الديني عن غيره من الخطابات الدينية بالروحانية وعمق الفكر والنظر، فقد انشغل أهل التصوف بتحقيق أعلى المقامات الدينية بعد مقامي الإسلام والإيمان، ألا وهو مقام الإحسان الذي بدوره يحوي مقامان أعلاها مقام وحدة الشهود مصداقا لحديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه: «بينما نحن جلوس عند رسول الله صلى الله عليه وسلم......قال: "فأخبرني عن الإحسان"، قال: أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك...» كما أن جل موضوعاته تعلقت بمعرفة الله، وارتكزت في ذلك على الجانب الروحي العقدي الذي تهدف ثمرته إلى تزكية النفس البشرية، كما جاء في قوله تعالى: ﴿قَدْ أَفْلَحَ مَن زَكَّاهَا﴾. في حين أن بقية الخطابات كخطاب الفقهاء اهتمَّ بتعاليم وأحكام الشريعة، وخطاب المحدِّثين ارتكز موضوعه على الحديث الشريف، وخطاب علماء الكلام الذي انحصر موضوعه أيضا في العقيدة إلى غير ذلك من خطابات.
وفي اعتقادنا أن محاور الخطاب الروحي الصوفي ترتكز على ثلاث نقاط أساسية تتفرع عنها تفريعات عديدة، فأهم محور فيها هو معرفة الله، وثانيها معرفة الإنسان نفسه وما يجب عليه للسلوك إلى مرضاة خالقه، أهمها النقطة الثالثة فهي الكون أو ما أوجد الخالق من المخلوقات.
والترابط بين هذه النقاط وثيق جدا، بحيث إن الإنسان جزء من هذا الكون، وبالتأمل في هذا الكون يهتدي بالعلم والسلوك الحسن إلى تعظيم خالقه وتقديره حق قدره، ولا يفتن بخلقه فيشرك ببارئه كما نبهه عز وجل في قوله تعالى: ﴿وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ ۚ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَىٰ عَمَّا يُشْرِكُونَ﴾.
لكن قبل التطرق إلى هذه المحاور الثلاثة (الله، والكون، والإنسان) نود الإشارة إلى بعض النقاط التي نعتبرها بمثابة تنبيهات. النقطة الأولى تكمن في استحالة الإحاطة بها من حيث ذاتها، فإن كان لها ذات فهي لا تطيقها العبارة ولا تتحملها، كما قال ابن العربي: بل لا تركبه العبارة أصل ولا الإشارة ولكن يدرك بالكشف. أما النقطة الثانية هو أن الكلام أو الألفاظ التي نستعملها كأداة اصطلاحية للتعبير عن المعاني هي في ذاتها حجب لتلك المعاني، بمعنى أنه كلما أرادت العبارة احتواء مفهوم أو اقتناص معنى حصرت واختزلت ذك المعنى. فإن قربت العبارة المفهوم وحالفها التوفيق، تكون قد أحاطت ببعض الاحتمالات للخطاب الروحي، لأن الخطاب الروحي الصوفي يشتغل بمواضيع لا حصر لها في ذاتها نقصد المحاور الثلاثة المشار إليها سابقا.
والتصوف سلوك وممارسة وتجربة روحية قبل أن تطرأ عليه الأفكار النظرية والمباحث الفلسفية، فموضوعه علاقة الإنسان بخالقه، وكل ما توجبه هذه العلاقة من الإذعان والخضوع لقدرته، وطمع في نعمه التي لا تنفك عن الإنسان وسائر المخلوقات، ألا وهي نعم الإيجاد والإمداد، أوجد الخلق أي خلقه، وأمده من فضله حتى لا يزول ويضمحل، وسبحان من لا تنفذ خزائنه مصداقا لقوله تعالى: ﴿وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا عِندَنَا خَزَائِنُهُ وَمَا نُنَزِّلُهُ إِلَّا بِقَدَرٍ مَّعْلُومٍ﴾.
إن جهل ما كُتب في فن التصوف لا يخلو من التعريف بالله وذكره ووصفه على أنه الواجد والممد لخلقه بفضله ونعمه، وأن المخلوقات لا حول ولا قوة لها إلا به، فغاية السالك هو التعرف على موجده، وكلما ارتقى في معرفته به زاد اعترافه بحق ربوبيته وألوهيته، فقد أورد بن أبي الدنيا في كتاب التوبة حدثني يعقوب بن عُبْيد، أنبا يزيد بْن هارون، أنبا ِمسْعَرٌ، عن سعد بْن إِبْراِهيم، عن طْلق بْن حبِيب، قال: إِن حق اللِه أثْقل ِمن أن يقومَ بِِه الْعِبادُ، وإِنَّ نِعمَ اللِه أ كثرُ ِمن أن ُْيحصيها الْعِبادُ".
أما المحور الثاني فهو متعلق بالإنسان نفسه، فهو بيت القصيد، وإن الخطاب الإلهي موجه إليه، لأنه هو المكلف والملزم بتحمل الأمانة التي أنيطت به واستوجب عليه الجهد للخلاص من أسر الشهوات والضلال في كدر الظلمات للنجاة بنور العلم والإيمان إلى جنة القربات. فجاءت كتب هذا الفن بما يعين الإنسان على الرقي إلى مقام الإحسان والنجاة من الخذلان لقوله تعالى:﴿إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنَى أُولَئِكَ عَنْهَا مُبْعَدُونَ﴾.
في حين النقطة الثالثة هي همزة وصل بين المحورين السابقين، فالتدبر والتفكر في الكون يدل الإنسان على صنعة خالقه، فقد جاء في الزهد لأحمد بن حنبل: حدثنا عبد الله، حدثني أبي، حدثنا أبو معاوية، حدثنا الأعمش، عن عمرو بن مرة، عن سالم بن أبي الجعد، عن أم الدرداء، عن أبي الدرداء قال: " تفكر ساعة خير من قيام ليلة".
وفي النقطتين الأولتين نجد أن هناك تقاطعا بين الفكر الصوفي والفكر الفلسفي، وبذلك فقد أصبح هذا الأخير مصدرا من مصادر الفكر الصوفي لاشتراكه معه في خاصية العمق والبحث عن كنه الحقائق والأسرار الكونية، فنجد أن الفلسفة اليونانية كان لها أثرها البارز في تبلور هذا الفكر، فهذا ما لمسناه عند جابر ابن حيان الصوفي من خلال مؤلفاته التي أوردها ابن النديم، وإخوان الصفاء الذين عرفوا رسائلهم في الفهرس بأنّها اثنتان وخمسون رسالة في فنون العلم وغرائب الحكم، وطرائف الآداب، وحقائق المعاني، عن كلام خلصاء الصوفية، وأبو حامد الغزالي في كتابه الإحياء، وابن العربي في فتوحاته المكية.
وهذا راجع إلى أن مواضيع الفكر الصوفي تهدف إلى كشف الحقائق الكونية، وتهدف أيضا إلى ترقية سلوك الفرد في العالم الروحاني، وبذلك مواضيع بحثه تنقل المتصوف إلى البحث في كشف الحقائق والأسرار الطبيعية التي تُكشف من خلال التأمل في الكون بغرض الرقي إلى معرفة موجد الكون وخالقه.
إن عظمة الكون ودقة صنعته وتناهي نظامه حير أولي الألباب من الفلاسفة القدامى قبل البعثة المحمدية، فتباينت مصطلحات آراء الحكماء والفلسفة حول موضوع بدء الخلقة أو ما يسمى أول الفطرة الذي يوجب الإذعان للواحد الأحد، وهذه الخلفات الاصطلاحية أوردها إخوان الصفاء في رسالتهم الجامعة قائلين: "فمن الحكماء من قال: الهيولي والصورة. ومنهم من قال: النور والظلمة. ومنهم من قال: الجوهر والعرض. ومنهم من قال: الروحاني والجسماني. ومنهم من قال: اللوح والقلم. ومنهم من قال: القبض والبسط. ومنهم من قال: المحبة والشوق ، ومنهم من قال الحركة والسكون. ومنهم من قال: الوجود والعدم. ومنهم من قال: الزمان والمكان. ومنهم من قال: الدنيا والآخرة. ومنهم من قال: العلة والمعلول. ومنهم من قال: المبدأ والمعاد. ومنهم من قال: الظاهر والباطن. ومنهم من قال: اللطيف والكثيف. وما شاكل ذلك من إيراد القول على الأصلي والإشارة إليهما، باسمين".
سعيد نواصر