واعلم أن الجوهر المذكور المسمّى بالنفس الناطقة له الأسماء قيقال له القلب، ويقال له : اللطيفة الإنسانية، ويقال له : حقيقة الإنسان، وهو المدرك العالم المخاطب بالأوامر الشرعية، والمطالب بها.
وإنَّ لهذا الجوهر ظاهرًا مركَّبًا، وهو النفس الشهوانية المذكورة أيضًا، وإن له باطنًا وهو الروح، وللباطن باطن، وهو السر، والسر له باطن وهو سر السر، ولسر السر باطن وهو الخفي، والخفي له باطن، وهو الأخفى، وباطن الشيء حقيقته ومادته.
ويتضح لك أمر الباطن وباطن الباطن في مثال أضربه لك، وهو أن السرير مثلًا شيء باطنه قطع الخشب، وقطع الخشب باطنها الشجر والشجر باطنه العناصر الأربع، والعناصر الأربع باطنها الهيولي الأول فافهم هذا التحقيق، فإنك لا تراه على هذه الكيفية في كتاب آخر، لأنك تسمعهم يقولون للشيء الفلاني، باطن الشيء الفلاني، ولكن لا تعلم ما حقيقة الباطن.
فإذا عرفت هذا عرفت أن هذا الأمر الواحد الرباني حال كونه في غاية اللطافة، والخفي يسمى بلا خفي، وحال تنزله درجة واحدة، والكاثف يسمى بالخفي، وحال تنزله درجة ثانية وتكاثفه تكاثفًا أقوى من الأول يسمى بسر السر، ثم كذلك فيسمى بالسر، ثم كذلك فيسمى بالروح، ثم كذلك فيسمى بالقلب، وبالنفس الناطقة وباللطيفة الإنسانية وبالإنسان، ففي هذه الدرجة يسمى بأربعة أسماء، فإن تنزل درجة فيسمى حينئذ بالإنسان الحيواني، وبالنفس الأمَّارة.
واعلم أنّ المراد من سلوك طريق التقوى ترقي هذا الأمر الرباني شيئاً فشيئاً إلى مقامه الأول بالعلاجات وبالأدوية التي وضعها أكمل الكاملين، وروح المرشدين، وحبيب رب العالمين، محمد عليه من الله أفضل الصلاة وأتم التسليم، وهي الصيام والقيام، وقلة الكلام والشفقة على الأنام، والذكر والفكر، وأكل الحلال وترك الحرام، وغير ذلك مما يذكر مفصلًا إن شاء الله تعالى، من غير خروج عن دائرة الشرع ولا مقدار ذرة، لأن كل من تداوى بغير دواء الشرع لا يشفى مرضه بل يزداد مرضًا إلى مرضه.
فإذا كان السالك الطالب للكمال في الدرجة الأخيرة، أعني في درجة الإنسان الحيواني، وكانت نفسه أمّارة بالسوء، فدواؤه الذي يترق به إلى درجة القلب "لا إله إلا الله" لكن ينبغي أن يكون ذكره في جميع أوقاته، ويكون بالجهر والشدة والقوة لينبه أعضاءه من الغفلة.
وإن كان السالك في درجة القلب، واراد الترقي إلى مقام الروح، فدواؤه تقليل الطعام والمنام، والذكر بلفظة : الله الله الله، مع الإكثار، وسنذكر في الأبواب الآتية جميع ما يحتاج إليه السالك في سفره من الأدوية التي يترقى بها درجة، إلى أن يصل إلى تنزل منه، وهو الصور الآدمية التي كانت قبلةً للملكية.