آخر الأخبار

جاري التحميل ...

البعد التوحيدي للذكر في الإسلام (الوسيلة والغاية) (10)

أما حضور الذكر في توحيد الألوهية فنجد عدة آيات مبينة من جهة خصوصيته التدعيمية ومن جهة ملازمة الذكر لسائر الشعائر التعبدية. 

ومن بين مظاهر هذا التلازم نجد مثلا في المجالات التعبدية هذه الآيات : 

أ) الصلاة : يقول الله تعالى : «فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَّوْقُوتًا»، وقوله أيضا : «اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ ».

وهاتان الآيتان تتضمنان تحديدا لخصوصية الذكر ومميزاته. وفيهما دحض لآراء البعض الذين يريدون أن يقصوا الذكر بمفهومه الخاص والمتأسس على التكرار والصيغ اللفظية بدعوى أن المقصود به هو الصلاة أو التفكر الذهني أو الحضور القلبي فقط، لأن الصلاة في الآية الأولى قد قضيت وهي عمل وليس تفكرا وقد استرسل هذا العمل بعمل آخر تكميلي من جنسه وهو ذكر الله تعالى كوسيلة ضامنة لمواصلة العبادة المحققة لتوحيد الألوهية. 
ب) الزكاة : قوله تعالى : «إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَإِذَا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آيَاتُهُ زَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَعَلَىٰ رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنفِقُونَ» فالانفاق في سبيل الله من نتائج الذكر وأثره في القلب، ولهذا الأثر العقدي والتعبدي الذي يحققه الذكر اعتبر الموحدون بين العقيدة والعبادة بوصفهم في قوله تعالى «أُولَٰئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا ۚ لَّهُمْ دَرَجَاتٌ عِندَ رَبِّهِمْ وَمَغْفِرَةٌ وَرِزْقٌ كَرِيمٌ». 
كما نجد هذا التلازم أيضا في قول الله تعالى : « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى». والتزكية هنا لها معنيان كلاهما له غاية توحيدية مؤسسها الذكر. فالمعنى الأول هو طهارة النفس من الأخلاق الرديئة والرذيلة وهذا فتح المجال لتوحيد الربوبية في القلب السليم وتصحيح العقيدة. والمعنى الثاني هو طهارة الظاهر بالزكاة المالية ليتسنى التطابق بين الظاهر والباطن في العقيدة والعبادة. وهذا ما فهمه بعض السلف الصالح من الآية كما يروى عن عمر بن عبد العزيز أنه كان يأمر الناس بإخراج صدقة الفطر ويتلو هذه الآية « قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى». وقال قتادة في هذه الآية زكى ماله وأرضى خالقه.
ج) الحج : قوله تعالى : « لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُنَاحٌ أَن تَبْتَغُوا فَضْلًا مِّن رَّبِّكُمْ ۚ فَإِذَا أَفَضْتُم مِّنْ عَرَفَاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِندَ الْمَشْعَرِ الْحَرَامِ ۖوَاذْكُرُوهُ كَمَا هَدَاكُمْ وَإِن كُنتُم مِّن قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ». « فَإِذَا قَضَيْتُم مَّنَاسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آبَاءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْرًا ۗ فَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا وَمَا لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلَاقٍ * وَمِنْهُم مَّن يَقُولُ رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ* أُولَٰئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِّمَّا كَسَبُوا ۚ وَاللَّهُ سَرِيعُ الْحِسَابِ».
وهذه الآيات فضلا عن أنها تؤسس مبدأ تلازم العبادات وكمالها بالذكر تنص على الاقبال بالكلية على ذكر الله تعالى بالحال المعبر عنه بأشد ذكرا أي من ذكركم آباءكم ومعلوم أن ذكر الآباء لايكون بمجرد التذكر الذهني وإنما يكون بالجهر والمفاخرة . كما كان العرب يذكرون آباءهم في المواسم والأسواق كسوق عكاظ مثلا، أو عند فراغهم من حجهم بالمفاخرة بهم.
د) الصيام : قوله تعالى : « شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدًى لِّلنَّاسِ وَبَيِّنَاتٍ مِّنَ الْهُدَىٰ وَالْفُرْقَانِ فَمَن شَهِدَ مِنكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ عَلَىٰ سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَلِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَلِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلَىٰ مَا هَدَاكُمْ وَلَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ * وَإِذَا سَأَلَكَ عِبَادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذَا دَعَانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَلْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ».

فاختتام الصيام بالتكبير والدعاء هو تأكيد على ضرورة الذكر في إخلاص العبودية لله تعالى. لأن المطلب هو وجهه الكريم بداية وغاية. ولو تتبعنا تلازم الذكر والعبادات سواء منها ذات الطابع الشعائري أو ذات الطابع السلوكي والحركي فإننا قد لا نستطيع حصر هذا التلازم في هذا المبحث المركز. إذ الذكر بقي مطلوبا ومؤكدا حضوره حتى في أحرج اللحظات التي تقتضي التفرغ الكامل للميدان جسديا وذهنيا وذلك في حالة الجهاد. وملاقاة العدو. فنجد قول الله تعالى حاثا على الذكر في هذه الآية : «يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَاذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيرًا لَّعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ».

وكبيان مرتبط بآية الأسوة الحسنة الدالة على أن الذكر في الإسلام هو شرط الشروط لتحقيق كل الكمالات العقدية والتعبدية نجد قول الله تعالى في هذه الآية الشاملة لتوحيد الربوبية وتوحيد الألوهية وإخلاص العبودية : «إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ وَالْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ وَالْقَانِتِينَ وَالْقَانِتَاتِ وَالصَّادِقِينَ وَالصَّادِقَاتِ وَالصَّابِرِينَ وَالصَّابِرَاتِ وَالْخَاشِعِينَ وَالْخَاشِعَاتِ وَالْمُتَصَدِّقِينَ وَالْمُتَصَدِّقَاتِ وَالصَّائِمِينَ وَالصَّائِمَاتِ وَالْحَافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَالْحَافِظَاتِ وَالذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيرًا وَالذَّاكِرَاتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُم مَّغْفِرَةً وَأَجْرًا عَظِيمًا».

وكنموذج من السنة دال على هذا الشرط الرئيسي في الإسلام لاخلاص العبودية لله تعالى وتحقيق التوحيد عقيدة وعبادة. نجد هذا الحديث التفصيلي لملازمة الذكر لسائر العبادات الظاهرية والباطنية : قال الإمام أحمد حدثنا حسن حدثنا ابن لهيعة حدثنا زبان بن فايد عن سهل بن قايد عن سهل بن معاذ بن أنس الجعنة عن أبيه رضي الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : « إن رجلا سأله فقال أي المجاهدين أعظم أجرا يارسول الله؟ قال : صلى الله عليه وسلم : « أكثرهم لله تعالى ذكرا» قال فأي الصــــائمين أكثر أجرا؟ قال صلى الله عليه وسلم : «أكثرهم لله عز وجل ذكرا» ثم ذكر الصلاة والزكاة والحج والصدقة ، كل ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : « أكثرهم لله ذكرا» فقال أبو بكر لعمر رضي الله عنهما : ذهب الذاكرون بكل خير. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم «أجل».

ومن خلال هذا الحديث وتزكية الذكر فيه لسائر العبادات بحسب إخلاص العابد، وربطا له بحديث أركان الإسلام كما في رواية عبد الله ابن عمر رضي الله عنهما قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "بني الإسلام على خمس: شهادة أن لا إله إلا الله وأن محمدا عبده ورسوله وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة وحج البيت وصوم رمضان"، يتبين لنا نصا واستنباطا وذوقا أن هذا الأخير قد جمع المعنى كله لتحديد البعد التوحيدي للذكر في الإسلام، بحيث قد جعل على رأس الأركان كلها قول أو شهادة أن: "لا إله إلا الله محمد رسول الله" 

وهذه الكلمة في حد ذاتها ذكر لأنها قول لساني مع اعتقاد قلبي، وإن كان المطلوب شرعا أن يسلم لقائلها بإسلامه مرة واحدة لمجرد القول الظاهر والله يتولى السرائر.

وكما أن لسائر العبادات فرائض ونوافل مكملة ومجبرة لها فكان الأولى أن يكون لكلمة التوحيد فرائض ونوافل أكثر تكرارا من سائر العبادات لتثبيثها وتحقيق إخلاصها حتى تستقيم الأركان الأخرى من صلاة وزكاة وحج وصيام. 

إذ ذكر الله تعالى بسائر أسمائه وعباراته وكذلك الصلوات على النبي صلى الله عليه وسلم بصيغها آدابها كلها تندرج في سياق هذه الشهادة الرئيسية التي هي أساس الأركان والممد لها بالإخلاص والقبول عند الله تعالى.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية