آخر الأخبار

جاري التحميل ...

البعد التوحيدي للذكر في الإسلام -الوسيلة والغاية 14


الوصل الأول

 الذكر كأداة وصل بين الانسان وذاته

أولا: الذكر والتصحية في تحقيق وحدة الشخصية:

          وهذا التواصل في الحقيقة يمثل الشرط الأساسي لمعرفة النفس في العمق عن طريق الاستبطان. وهو إما أن يتم على مستوى الوعي والإدراك العقلي السليم أو الشعور والذوق الوجداني المستنير، وإن كان هذا الأخير يستحق الانفراد بهذه المعرفة ويمثل الركن الأساسي في الاستبطان النفسي لأنه مباشر وحقيقي يقيني.
          وبما أن ذكر الله تعالى له أثر مباشر على القلب ويرسخ الايمان حالا وشعورا كما أوضحنا، فإن غياب هذا الأثر الموقظ يكون سببا في تغييب الشعور بالذات شعورا سليما وسلب الإدراك الحقيقي لخلفيات السلوك وأبعاده.
          وهذا مانستشفه فهما من قول الله تعالى : «ولاتكونوا كالذين نسوا الله فأنساهم أنفسهم، أولئك هم الفاسقون».
          وكذلك قوله تعالى : « ومن أعرض عن ذكري فإن له معيشة ضنكا ونحشره يوم القيامة أعمى. قال رب لم حشرتني أعمى وقد كنت بصيرا. قال كذلك أتتك آياتنا فنسيتها وكذلك اليوم تنسى» وقوله تعالى « ومن يعش عن ذكر الرحمن نقيض له شيطانا فهو له قرين ».
          فنسيان ذكر الله تعالى بأية صفة من الصفات يعني موتا محتما وانقطاع صلة بالوجود الحق الذي هو أصل كل موجود ومصدر حياته. ولهذا وإن توهم الشخص المنقطع عن هذه الصلة أنه حي فإنه في الحقيقة الوجودية ميت لايعي ذاته ولاغيره مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه وسلم : « مثل الذي يذكر ربه والذي لايذكر ربه مثل الحي والميت».
          ولهذا نتجرأ على القول بأنه لايعرف النفس في عمقها المباشر إلا أهل الذكر من المؤمنين لأنهم أحياء من بين سائر الناس حياة روحية نورانية. وحيث أنهم كذلك فإن مناسبة حياة الروح لحياة الجسد بصفته كائنا غير واع بسلوكاته يكون سببا جوهريا في إحداث الانسجام بين التوجه الفطري للروح والسلوك النظري الغريزي للجسد الذي يصرفه الروح الواعي أي جوهر الانسان المكلف. وعن هذا الانسجام في وحدة الوظيفة والغاية وهي السير وفق سنن الله تعالى جبرا واختيارا يحدث الاطمئنان الذي هو أرقى درجات الانسجام والتوافق المتناسب بين الانسان وذاته. لارتباطه أولا: تواصلا بالله تعالى ذكرا وعبادة. ولتوافق روحه مع جسده في صورة توحيدية تجمع بين توحيد الربوبية (العقدي) وتوحيد الألوهية (التعبدي).
          إذ توظيف الجسد وفق سنن الله تعالى التي فطر الخلق عليها هو في حد ذاته توحيد الألوهية، ولهذا فالذكر يبقى دائما أداة التناسب والتوافق بين الانسان وذاته . مما يؤدي حتما إلى اطمئنانه. فيكون القلق الذي يصيب غير الذاكرين سببه تناقض ذاتي بين جوهر الانسان وهيكله.
          وهذا الاستخلاص العلمي المؤسس على التفسير الموضوعي للنصوص الشرعية يدحض الآراء النفسية المادية الحديثة بتوجهاتها المختلفة والتي تريد أن تحصر القلق في الصراع الغريزي الجسدي للإنسان، إذ لو كان الانسان جسدا كله لما تناقض مع ذاته ولما عرفت غرائزه صراعا وتضاربا في المصالح مما يؤدي به إلى شتى الأمراض والانهيارات الغريزية. وذلك لأن الغرائز الجسدية مفطورة على سلوك معين ومقنن منها ما هو غير إرادي للإنسان ومنها ما هو إرادي، فأما ما هو غير إرادي، فإنه يبقى دائما فطريا يؤدي وظيفته كاملة كما خلقها الله عليها. ولا تختل إلا إذا عرضت للتصريف أو الإفراط والتفريط مما يؤدي إلى اختلال وظائفها وبالتالي فسادها.
          وأما ما هو إرادي فإنه يدخل تحت التوظيف المباشر لارادة الانسان بحسب توجهاته العقدية فتوظف إما على سبيل الافراط أو التفريط أو الاعتدال. وهذه التموجات الوظيفية يتحمل مسؤوليتها الانسان الواعي والذي هو فوق الغرائز باعتباره الموظف لها والمستفيـد منهـا. وهـذه الفـوقيـة ليـست سوى فوقية جوهرية والمتمثلة في الروح مركز ومصدر الشعور بالذات ومحيطها.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية