آخر الأخبار

جاري التحميل ...

إيقاظ الهمم في شرح الحكم (34)

كما نبه عليه الشيخ بقوله :

( سُبْحانَ مَنْ سَتَرَ سِرَّ الخُصوصِيَّةِ بِظُهورِ البَشَرِيَّةِ، وَظَهَرَ بِعَظَمَةِ الرُّبوبِيَّةِ في إظْهارِ العُبُودِيَّةِ)


الخصوصية هي نور الحق يشرقه الله في قلوب خواص عباده المقربين بعد تطهيرها من الأكدار وتنزيهها عن المساوي والأغيار ، يغيبون به عن شهود أنفسهم بشهود محبوبهم ، وسرها هو ما احتوى عليه ذلك النور من الكمالات العلية والنعوت القدسية والصفات السنية التي تليق بالمتحلى به : كالكبرياء والعز والقوة والعظمة والإجلال ، وكالإتصاف بالقدرة التامة والعلم المحيط وسائر أوصاف الكمال ، ثم إن الحق سبحانه من عظيم حكمته وباهر قدرته أن ستر تلك الأوصاف اللازمة لذلك النور بظهور أضدادها التي هي أوصاف العبودية ، فستر كبرياءه وعظمته بظهور الذل والفقروالضعف على العبد ، وستر قدرته وإراداته بظهور العجز والقهرية عليه ، وستر علمه المحيط بظهور الجهل والسهو ، إلى غير ذلك من أوصاف العبودية المقابلة لأوصاف الربوبية ، فسبحان من جعل الأشياء كامنة في أضدادها ، ستر كمالات الربوبية بنقائص العبودية ، ولولا ذلك لكان السرغير مصون والكنز غير مدفون وسيأتي قوله : "ستر أنوار السرائر بكثائف الظواهر إجلالاً لها أن تبتذل بالإظهار وأن ينادي عليها بلسان الإشتهار". فمن لطف الله تعالى ورحمته أن ستر ذلك السر بظهور نقائصه صوناً لذلك السر أن يظهر لغير أهله ، ومن أفشاه لغير أهله قتل كما فعل بالحلاج ، وكما ستر سر الخصوصية بظهور أضدادها ، ظهر بعظمة الربوبية في مظاهر العبودية ، قال الشيخ أبو الحسن رضي الله عنه :العبودية جوهرة أظهر بها الربوبية.
إذ الربوبية تقتضي مربوباً موصوفاً بضد ما أتصف به ربه من الكمالات الإلهية والنعوت القدسية فما ظهرت أوصاف الربوبية التي هي الغنى والعز والقدرة وغير ذلك من الكمالات ، إلا في أضدادها من الفقر والذل والضعف وغير ذلك ، فالفقر الحقيقي شامل لسائر الموجودات والغنى المطلق واجب لمن تجلى في الأرض والسموات :{يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ}.

فإذا تقرر هذا علمت أن الإضافة في سر الخصوصية ليست هي للبيان، بل هي للتخصيص ، فسر الخصوصية غيرها إذ الخصوصية هي النور الذي يقذفه الله سبحانه في قلوب أوليائه وسرها هو الكمالات التي تلازم ذلك النور كما تقدم .

واعلم أن سر الخصوصية الذي جعله الله في بواطن أوليائه وستره بظهور وصف بشريتهم ، قد يظهره عليهم على وجه خرق العادة ، فقد يظهر على وليه من قدرته وعلمه وسائر كمالاته ما تحار فيه العقول وتذهل فيه الأذهان ، لكن لا يدوم ذلك لهم بل يكون على سبيل الكرامات وخرق العادات يشرق عليهم شموس أوصافه فيتصفون بصفاته ثم يقبض ذلك عنهم فيردهم إلى حدودهم .

فنور الخصوصية وهي المعرفة ثابت لا يزول ساكن لا يحول ، وسرها وهو كمالاته تعالى تارة يشرق على أفق بشريتهم فيستنير بأوصاف الربوبيه ، وتارة ينقبض عنهم فيردون إلى حدودهم وشهود عبوديتهم فالمعرفة ثابته والواردات مختلفة والله تعالى أعلم.

واعلم أيضاً أن أوصاف البشرية التي ستر الله بها سرالخصوصية ، إنما هي الأوصاف الذاتية اللازمة للبشر كالأكل والشرب والنوم والنكاح ، لا الأوصاف المذمومة المناقضة للعبودية كالكبر والعجب والحسد والغضب وغير ذلك ، فإن تلك أوصاف ذهبت بظهور نور العناية وسابق الهداية إذ لا تثبت الخصوصية إلا بعد محوها ، بخلاف الأوصاف الذاتية فإنها تجامع الخصوصية بل هي حجابها وصوانها ، وبوجودها وقع الستروالخفاء لأولياء الله تعالى غيرة عليهم أن يعرفهم من لا يعرف قدرهم قال في لطائف المنن: "فأولياء الله أهل كهف الإيواء فقليل من يعرفهم". وسمعت الشيخ أبا العباس رضي الله عنه يقول : معرفة الولي أصعب من معرفة الله فإن الله معروف بكماله وجماله ، ومتى تعرف مخلوق مثلك يأكل كما تأكل ويشرب كما تشرب ، وإذا أراد الله أن يعرفك بولي من أوليائه طوى عنك وجود بشريته وأشهدك وجود خصوصيته.

تنبيه : هذا النور الذي أشرقه الله في قلوب أوليائه كان كامناً في الروح في أصل بروزها فأصلها نورانية عالمة بأسرار الغيب دراكة للأشياء على حقيقتها وإنما حجبها عن ذلك سجنها في هذا البدن الطيني وأشتغالها بحظوظه وشهواته فمن أدبها وريضها على يد شيخ كامل رجعت إلى أصلها

فإذا كمل تطهير الروح من الأغيار وأشرقت عليها شموس الأنوار كوشفت بأسرار الذات وأنوار الصفات فغرقت في بحر التوحيد الذي تكل عنه العبارة ولا تلحقه الإشارة وهو وهو التوحيد الخاص الذي أشار إليه الهروي بقوله :
ما وَحَّدَ الواحِدَ مِنْ واحِدِ          إذ كُلُّ مَنْ وَحَّدَهُ جَاحِدُ
توحيدُ مَنْ ينطقُ عن نَعْتِهِ      عاريةُ أَبْطَلَهَا الواحِدُ
توحيدُه إياه توحيدُه              ونعتُ من يَنْعَتُه لاَحِدُ
ومضمنه أن الحق سبحانه تولى توحيد نفسه بنفسه، فكل من ادعي أنه وحده بنفسه فهو جاحد لوحدانيته حيث أشرك معه نفسه، وكل من ينعته بنفسه فهو لاحد، أي مائل عن الصواب، والله تعالى أعلم.
فإذا طلبت ربك في تطهيرك من وصف البشرية ليكشف لك سر الخصوصية، ثم تأخر مطلبك فإنما ذلك من سوء أدبك كما نبه عليه بقوله : 

(لا تُطَالِبْ رَبَّكَ بِتَأَخُّرِ مَطْلَبِكَ وَلكِنْ طَالِبْ نَفْسَكَ بِتَأَخُّرِ أَدَبكَ)


قلت : هذه قاعدة عامة وإن كانت مناسبتها خاصة، فإذا طلبت شيئاً ثم تأخر ظهور ذلك المطلب فإنما ذلك لِما فاتك من حسن الأدب، ولو لم يكن إلا قصد خصوص ذلك الطلب، فلا تطالب ربك أن يعجل مطلبك بسبب تأخره عنك، ولكن طالب نفسك بتأخر أدبك، فلو أحسنت الأدب في الطلب لقُضِيَت حاجتك معنى وإن لم تُقض حساً ،وحسن الأدب هنا هو اكتفاؤك بعلمه، ورضاك بحكمه، واعتمادك على ما اختاره لك دون ما اخترته لنفسك لقلة علمك، فقد ضمن لك الإجابة فيما يريد لا فيما تريد، وفي الوقت الذي يريد لا في الوقت الذي تريد، قال وهب بن منبه رضي الله عنه : "قرأت في بعض الكتب : يا ابن آدم أطعني فيما أمرتك ولا تعلمني بما يصلحك، إني عالم بخَلقي إنما أكرم من أكرمني وأهين من هان عليه أمري، ولست بناظر في حق عبدي حتى ينظر عبدي في حقي"، وأعظم الآداب وأكملها امتثال أمره والاستسلام لقهره.

هذا آخر الباب الحادي عشر.

وحاصله : تحقيق الأدب في التعرفات الجلالية بدوام معرفته وشهود نعمته في نعمته وجريان لطفه وبره في حال قضائه وقدره حتى لا يغلبك الهوى فتلتبس عليك سبل الهدى

أو تقف مع ظاهر الأشياء التي هي محل الجلال فتحجب عن البواطن التي هي مستقر الجمال، فالذات جلال والصفات جمال فمن وقف مع ظواهر الجلال حجب عن شهود الجمال وحرم من معرفة الرجال وكان محجوباًعن ذي العظمة والجلال،فيسيء الأدب  ويحرم حصول المطلب، فإذا إستدركته العناية  وهبّت عليه ريح الهداية شغل ظاهره 

بوظائف العبودية وباطنه بشهود الربوبية فكان في الظاهر ممتثلاً لأمره وفي الباطن مستسلماً لقهره، فتمّت عليه نعمة مولاه وكمل تخليصه من رقّ حظوظه وهواه فهو يعظم ما عظم مولاه ولا يستحقر شيئاً من أسباب محبته ورضاه .


التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية