وأما علم المكاشفة الذي هو ثمرة المجاهدات ونتيجتها، فلم يكن سبيل إلى الخوض فيه. وقد حذّر القوم رضي الله عنهم من إيداعه الكتب والكلام في شيء منه إلا ما يدور بينهم في المفاوضات على سبيل الرمز والإيماء تمثيلا وإجمالاً، ولا يكشفون لغيرهم شيئاً من معانيه، علماً بقصور الأفهام عن احتماله، وقوفا مع حدود الشريعة في ترك الأخد بما لا يعني، وأدباً مع الله في صون أسرار الربوبية، وإن صدر عن أحد منهم كلمة من ذلك على سبيل الندور سمّوه شطحًا، بمعنى أن حال الغيبة والسكر استولت عليه حتى تكلم بما ليس له الكلام به، كما نقل عن أبي يزيد في قوله : "سبحاني ما أعظم شأني"، وقوله : "جزت بحرًا وقف الأنبياء بساحله". وقول رابعة : "لو وضعت خماري على النار ما بقي بها أحد". وأمثال ذلك.
واعلم أن الخوض في هذا الفن من الأقوال محظور من وجوه :
أولها : أن العبارة عن تلك المدارك والمعاني المنكشفة من عالم الملكوت متعذرة، لا، بل مفقودة، لأن ألفاظ التخاطب في كل لغة من اللغات إنما وضعت لمعانٍ متعارفة من محسوس، أو متخيل، أو معقول تعرفه الكافة، إذ اللغات تواضع واصطلاح، فلا توضع إلا للمعروف المتعاهد، فأما ما ينفرد بإدراكه الواحد في الأعصار والأجيال فلم توضع له، ولا يصح أيضا التجوُّز بهذه الألفاظ إلى تلك المعاني حتى يقال يعبر عنها بهذه الألفاظ على طريق المجاز، إذ التجوُّز إنما يكون بعد مراعاة معنى مشترك أو نسبة، ولا نسبة بوجهٍ بين عالم الملكوت وعالم الملك، ولا بين عالم الغيب وعالم الشهادة، فإذن العبارة عن أحوال عالم الملكوت متعذرة أو مفقودة، فكيف يتكلم بما لا يفهم، فضلًا عن أن يودع الكتب، وإن صاروا إلى ضرب الأمثال والقنوع بالإجمال فسبيل مبهم.
وثانيها : أن الأنبياء صلوات الله عليهم هم أهل المكاشفة والمشاهدة بالأصل، إذ هي لهم جبلة وطبيعة، واللمحة التي تحصل لغيرهم من ولي أو صدّيق بتكلف أو اكتساب واطّلاعهم على أحوال الملكوت أكمل من اطّلاع العارف والولي، بل لا نسبة بينهما، وهم قادرون على التعبير عن ذلك بإمداد الله إياهم بنوره.
ومع هذا فلم ينقل ذلك، وقد سئل صلى الله عليه وسلم عن الروح فقال : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا}وقد جعل علماء اليهود الذين سألوه عن الروح، من علامة نبوته وصدق مدعاه أن لا يجيب عن ذلك. وإنما دعا الأنبياء الكافة إلى النجاة، ونبهوا على تفاوت الدرجات، وأوموا إلى شيء من أحوال عالم الملكوت دعت الضرورة إليه في عقائد الإيمان من أمور الصفات وأحوال القيامة، تعين حمل بعضها الظاهر في عالم الملك كأحوال القيامة، وعد بعضها من المتشابه كما في كثير من الصفات، وقد عدَّ بعض العلماء كل ذلك من المتشابه، فما ظنك بغير الأنبياء ممن لا يطمع في مداركهم، ولا يرد على حوضهم، ولم تدعه ضرورة التبليغ إلى النطق به.
وثالثها : أن العلوم والمعارف - بحسب نظر الشرع - تنقسم إلى محظور وغير محظور، والقاعدة المستقرأة من الشريعة أن كل ما لا يهم المكلف في معاشه ولا في دينه فهو مأمور بتركه. قال صلى الله عليه وسلم : "مِنْ حُسْنِ إسْلامِ المَرْء تركُهُ مَا لا يَعْنيه". قيل هذا الحديث ثلث الدين، فما يهم المكلف في دينه او معاشه فغير محظور، وربما تنتهي الأهمية فيه إلى الوجوب.
ومن هذا العلم بفروض الأعيان إذ هم أهم بحسب الدين، وما لا يهم المكلف في دينه ولا معاشه تجده محظورًا. وتأمل قوله تعالى : {وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ}تجد في قوله : {قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً} رائحة الإنكار الدّال على الحظر، وكذلك قوله تعالى : {يَسْأَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ} معناه أن الذي يهمكم من أمر الأهلة كونها معالم للحج، وهذا من أمور الدين، أو معالم للناس في مزارعهم ومتاجرهم، وهذا من أمور المعاش، وما سوى ذلك فلا حاجة لكم به، ثم عقبه بذكر ما هو أهم، وهو النهي عما كان بعض الحجاج يفعلون في إحرامهم من هجر البيوت في الدخول، وإتيانها من ظهورها، ففي تعقيبه بهذا الحكم بعد الإضراب عن مقصود السؤال تنبيه وإيماء على حظر الشارع لذلك، وطلب تركه من المكلفين.