ظهور الكرامات
أقول وبالله التوفيق : ظهور الكرامات للأولياء جائز عقلاً، وواقعٌ نقلاً، أمَّا جوازه في العقل فلأنه ليس مستحيلٌ في قدرة الله تعالى بل هو من قبيل الممكنات كظهور المعجزات للأنبياء عليه الصلاة والسلام، هذا مذهب أهل السنّة من المشايخ العارفين، والنُّطقاء الأصوليين، والفقهاء، والمحدثين رضي الله عنهم أجمعين، وتصانيفهم ناطقةٌ بذلك شرقاً غرباً عجماً وعرباً، وأمّا وقوع ذلك بالنقل أعني ظهور الكرامات فقد جاء في القرآن والأخبار والآثار والإسناد ما يخرج عن الحصر والتعداد، فمن ذلك في القرآن ما أخبر الله تعالى عن مريم عليها السلام بقوله تعالى :{ كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ قَالَ يَا مَرْيَمُ أَنَّىٰ لَكِ هَٰذَا}، وكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء، هكذا جاء في التفسير، وكذلك ما أخبر الله تعالى من إلهام أم موسى عليه السلام في أمره ما هو معروفٌ، وكذلك ما أخبر الله تعالى من العجائب عن الخضر رضوان الله عليه مع موسى صلى الله عليه وسلم، وكذلك قصة ذي القرنين رضوان الله عليه وتمكين الله له ما لم يمكنه لغيره وكذلك قصة أصحاب الكهف رضي الله عنهم والأعاجيب التي ظهرت من كلام الكلب معهم وغير ذلك، وكذلك قصة ابن برخيا رضي الله عنه مع سليمان صلى الله عليه وسلم في عرش بلقيس في قوله تعالى :{ قَالَ الَّذِي عِندَهُ عِلْمٌ مِّنَ الْكِتَابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَن يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ }، وكل هؤلاء المذكورين ليسوا بأنبياء بل أولياء. ومن ذلك في الأخبار حديث جريح الرّاهب الذي كلّمه الطفل في المهد، وهو حديثٌ صحيحٌ أخرجاه في الصحيحين. وحديث أصحاب الغار الذي انطبقت عليهم الصخرة، ثم انفرجت عنهم، وهو حديث متفق على صحته مذكور في الصحيحين . وحديث البقرة التي كلّمت صاحبها، وهو حديثٌ صحيحٌ مشهورٌ، والحديث المتفق على صحته المذكور في الصحيحين في أبي بكر الصديق مع ضيفه وبركة الطعام حتى صار أكثر مما كان قبله بثلاث مراتٍ، وكذلك ما اشتهر عن أبي بكر أيضاً أنه أُخبر أن حمل امرأته أنثى فكان كذلك، وحديثٌ في الصحيحين المتفق على صحته في عمر رضي الله عنه أنه من الممحدَّثين بفتح الدّال، وكذلك ما صحَّ عنه أنه قال : يا سارية الجبل في حال خطبةٍ في يوم الجمعة، فبلغ صوته إلى سارية، فكان لعمر في ذلك كرامتان اثنتان : إحداهما : ما كُشِف له عن حال سارية وأصحابه المسلمين، وحال العدو، والثانية : بلوغ صوته إلى بلادٍ بعيدةٍ.
والحديثان المتفق على صحتهما في سعد وسعيد في إجابة دعوة كل واحدٍ منهما، والحديث الصحيح في البخاري في خبيب رضي الله عنه في قطف العنب الذي وُجد في يده يأكله في غير أوان الثمار.
والحديث الصحيح حديث البخاري أيضا في : أسيد بن حضير، وعبّاد بن بشر رضي الله عنهما اللذين خرجا من عند رسول الله صلى الله عليه وسلّم في ليلةٍ مظلمةٍ ومعهما مثل المصباحين بين أيديهما.
والحديث الصحيح : حديث الرجل الذي سمع صوتاً في السحاب يقول : اسقي حديقة فلان، وما جاء أن ابن عمر رضي الله عنهما قال للأسد الذي منع الناس الطريق : تنحَّ، فبصبص بذَنبِه وذهب، وما جاء أن رسول الله صلى الله عليه وسلم بعث العلاء بن الحضرمي، فحال بينهم وبين الموضع قطعةٌ من البحر، فدعا بالاسم الأعظم ومشى على الماء.
وما جاء أنه كان سلمان وأبي الدرداء قصعةٌ فسبّحت حتى سمعا التسبيح، وكذلك ما اشتهر أن عمران بن الحصين رضي الله عنهما كان يسمع تسليم الملائكة عليه حتى اكتوى، فانحبس عنه ذلك، ثم أعاده الله تعالى إليه لما ترك الاكتواء.
والحديث الصحيح حديث مسلم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :{ رُبَّ أَشعَتَ مدفوعٌ بالأبوابِ لو أقسمَ على الله لأبرَّه }. قلت : ولو لم يكن إلا هذا الحديث لكفى دليلاً.
وقد ورد عن السلف والخلف من الصحابة والتابعين ومن بعدهم من المشايخ العارفين والفقراء الصادقين وسائر الأولياء والصالحين من الكرامات المستفيضات، الصادرات عن العِيان والمشاهدات، ما طَبَقَ الآفاق، وملأ جميع البلاد، وعجزت الدفاتر عن اليسير منه في الحصر والتَّعداد، وقد صنف الناس في ذلك كتب كثيرة، وكرامة واحدة من له بصيرة فكيف وقد ملأت الوجود وتشعشعت أنوارها، فشامت أبصار المؤمنين بوارقها اللامحة، وفاحت أخبارها فتعطَّرت بنشرها الزَّاكي مسامعهم السامعة، وعميت عن رؤية أنوارها أبصار المكذبين لها من كان محروم، وصُمَّت مسامعهم عن سماع أخبارها وكل منهم عن شم طيبها مزكوم.
نشر المحاسن الغالية
في فضل المشايخ الصوفية
أصحاب المقامات العالية
في فضل المشايخ الصوفية
أصحاب المقامات العالية