الباب الثالث
في آداب المريد مع شيخه
اعلم رحمك الله أنَّ أحدًا لم يبلغ قط إلى حالة شريفة إلا بملاقاة المشايخ ومعانقة الأدب معهم وملازمة خدمتهم، ومَن صَحِبَ الأكابر على غير طريق الاحترام حَرُمَ فوائدهم وبركات نظرهم، ولا يظهر عليه من آثارهم شيءٌ ولو كلف ذلك، وكان الجنيد رضي الله عنه يقول :"مَنْ حَرُمَ احترام الأولياء ابتلاه الله بالمقت بين العباد" نسأل الله تعالى العافية، وفي رواية عنه : "مَنْ جلسَ معهم ونازعهم في شيء يتحققون به في أنفسهم يخاف عليه من سوء الخاتمة" لأن الله يغضب لغضبهم، وكان رضي الله عنه يقول : "إنما حرموا الوصول بتركهم الاقتداء وسلوكهم بالهوى فطالت عليهم الطريق وربما مات أحدهم في أثناء الطريق ولم يحصل على حاصل".
إذا علمتَ ذلك، فمن شروط المريد أن لا يدخل في صحبة أحد من الشيوخ حتى يقع له منه في قلبه الحرمة؛ لأن ذلك أسرع لنتاجه وإدراكه، فبقدر ما يسقط عنده حرمة شيخه بقدر ما يطول عليه الطريق ويعدم النفع، وبقدر ما يعظم في عينه بقدر ما يقرب فتحه، وقد كان الجنيد رضي الله عنه إذا جاء مريد يريد الطريق إلى الله تعالى يقول له : "اذهب واخدم السلطان وأهل حضرته واعرف مراسمهم" ثم يقال وكان سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه يقول : " الفقراء كالملوك فمن لم يعرف أدب الملوك لا ينبغي له مجالستهم لأنه ربَّما جرَّه عدم احترامهم إلى العطب" بل أقول أنا إنه ينبغي أن يتأدّب مع الفقراء أعظم من الملوك لأنّ أدنى الفقراء قد زهد فيما رغب فيه أعلى ملوك الدنيا، فهم أعلى مرتبة من الملوك وأعظم مُرؤَية، فافهم.
وكان سيدي إبراهيم بن أدهم يقول : "لو يعلم الملوك ما الفُقراء فيه لقاتلوهم عليه بالسيوف" وكان شيخنا رضي الله عنه يقول : "إذا ضحك العارف في وجه أحدكم وانبسط فاحذروه ولا تجالسوه إلّا بالأدب، فربما كان ذلك مكرا بكم وطردًا لكم عن صحبته حيث لم يتفرّس فيكم خيرًا" فاعلم ذلك، وأن يجانب الفقراء الجاهلون بآداب الشرائع كالمطاوعة ومن ينتسب إلى الأحمدية والبرهانية ونحو ذلك من الخرق الذين يكتفون بتلك النسبة ولا يطلبون أدبا فوق ذلك؛ فإن هؤلاء مشايخهم متبرؤون منهم ولو حضروا موالدهم وهاموا عند ذكرهم، لأنّ نسب العارفين والقرب منهم إنما هو سلوك الآداب الشرعية، فكل من كان أكثر أدبًا في الشريعة كان أقرب إلى حضرة شيخه الذي انتسبَ إليه، لأن هؤلاء المشايخ أصحاب الخرق هم صدور مجالس الحضرة المحمدية، وتلك مائدة لا يقعد عليها طفيلي، ولا يقدر شيخه بقربه إليه في تلك الحضرة ويرفعه إلى مرتبة غيره من أهل الأدب وقد كان سيدي إبراهيم الدسوقي رضي الله عنه يقول : "إيّاكم والقول بالمشاهدات والدعاوي التي لا يشهد لها كتاب ولا سنة فإنها سبب طردكم عن حضرة ربكم" وكان يقول : "طريقنا هذا مضبوطٌ بالكتاب والسنة فمن أحدث فيها ما ليس في في الكتاب ولا في السنة فليس مومنا ولا من إخواننا ونحن بريئون منه في الدنيا والآخرة ولو انتسب هو إلينا بدعواه"، والسِّر فيما ذكرناه من النهي عن مخالطة أهل البدع، أنّ معاشرتهم تميت قلب الفقير حتى يصير كالثوب الخِلْق، وما جعل الله حياة القلوب إلا بالأعمال التي جاءت بها الشريعة، فلا يزال الفقير يخالط أهل البدع حتى يطرد من حضرتهم ويقع فيما وقعوا فيه.