وأما الثاني : أي ما يدل على أن الجهر بالذكر مشروع مندرج تحت الأقسام المأمور بها بأمر (اذْكُر) الوارد في القرآن والأحاديث فمنها قوله تعالى : {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْرًا كَثِيرًا} ومنها قوله تعالى : {فَإِذَا قَضَيْتُمُ الصَّلَاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِكُمْ} فقد أخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في الآية الأولى يقول: (لا يفرض على عباده فريضة إلا جعل لها حدًّا معلوما ثم عذر أهلها في حال عذر غير الذكر، فإنَّ الله لم يجعل له حدًّا ينتهي إليه، ولم يعذر أحدا في تركه إلاّ مغلوبا على عقله، فقال اذكروا الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبكم، بالليل والنهار، في البر والبحر، في السفر والحضر، في الغنى والفقر، والصحة والسقم، والسر والعلانية، وعلى كل حال، وقال سبحوه بكرة وأصيلا، فإذا فعلتم ذلك صلى عليكم هو وملائكته قال الله تعالى " {هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَمَلائِكَتُهُ}) كذا في الذر المنثور.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس في الآية الثانية قال : (بالليل والنهار في البر والبحر وفي السفر والغنى والفقر والسقم والصحة والسر والعلانية وعلى كل حال) كذا في الذر المنثور أيضا، أي على كل حال لم يكن الشرع استثناه كحالة الجلوس على قضاء الحاجة، وحالة الجماع، وحالة الخطبة لمن يسمع صوت الخطيب وغيرها، مما هو مفصل في مظانه للذاكر باللسان.
وجه الدلالة أن ابن عباس ذلك المقدم في التفسير لقوله صلى الله عليه وسلم له : "نعم ترجمان القرآن أنت" وفي لفظ : "نعم ترجمان القرآن عبد الله بن عباس" وقال ابن عباس : (انتهيت إلى النبي صلى الله عليه وسلم وعنده جبريل فق إنه كائن حَبْرَ هذه الأمة فاستوص به خيرا) فسرّ الآيتين مما يفيد العموم لأحوال الذاكرين أي غير المستثناة شرعا، وأحوال الذكر التي منها السر والعلانية فالجهر من المأمور به بهاتين الآيتين على تفسير ابن عباس ترجمان القرآن وحَبْر الأمة، ولا شيء من المأمور به بحرام فلا شيء من الجهر بالذكر بحرام وهو المطلوب، وإذا كان الأمر بالإكثار مقتضيا لعموم الأحوال إلا ما استثناه الشرع بتفسير ابن عباس، فلا بد لكمال الامتثال من الذكر بالجهر كالسر، وقد ورد في فضل الإكثار أحاديث كثيرة كقوله صلى الله عليه وسلم : (أفضل العُبَّاد درجة عند الله يوم القيامة الذاكرون الله كثيرا والذاكرات) رواه الإمام أحمد والترمذي عن أبي سعيدن وقوله صلى الله عليه وسلم : (أكثروا ذكر الله عز وجل على كل حال فإنه ليس عمل أحب إلى الله ولا أنجى لعبد من كل سيئة في الدنيا والآخرة من ذكر الله) الحديث بطوله عزاه السيوطي إلى ابن صصري في أماليه عن معاذ رضي الله عنه.