السؤال: هل يجوز الترضي عن غير الصحابة ؟
الجواب :
وبعد : فقد جرى عمل جماهير العلماء والفقهاء على جواز ذلك ، فيطلقون صيغة الترضي على غير الصحابة من سلف هذه الأمة، ومن مشايخهم وأهل الخير والصلاح في كتبهم وخطبهم. ومن يقرأ في كتب التراث والكتب المحدثة أيضا لا تخطئه صيغة الترضي التي يطلقها العلماء والفقهاء بمعنى الدعاء على كثير من الأئمة والعلماء على رأسهم أئمة المذاهب الفقهية المتبوعة، ومشاهير السلف والمتصوفة والصالحين. يقول الأستاذ وصفي عاشور أبو زيد (باحث في العلوم الشرعية) فالترضي عن الصحابة أولا يقصد به معنيان:
الأول : الإخبار عن أن الله رضي عنهم، وهذا لا شيء فيه؛ لأن الله تعالى قد أخبر في القرآن الكريم أنه رضي عنهم، قال تعالى: " وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُم بِإِحْسَانٍ رَّضِيَ اللّهُ عَنْهُمْ وَرَضُواْ عَنْهُ". [التوبة: 100].
والمعنى الثاني : الطلب من الله تعالى أن يرضى عنهم، فقولك: "رضي الله عنه" جملة خبرية تفيد الدعاء، كقولنا: "صلى الله على محمد" فهو في معنى: "اللهم صل على محمد"، وهذا من باب أولى لا شيء فيه للصحابة أيضا، بل على هذا المعنى يجوز الدعاء وطلب الرضى من الله لكل مسلم؛ وإن لم يكن صحابياً، وإلى هذا ذهب جمهور العلماء لقول الله سبحانه: "لَا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ يُوَادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَوْ كَانُوا آبَاءهُمْ أَوْ أَبْنَاءهُمْ أَوْ إِخْوَانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُوْلَئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ وَأَيَّدَهُم بِرُوحٍ مِّنْهُ وَيُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ". [المجادلة: 22]. وقوله سبحانه: "إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ* جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ". [البينة:7،8]. وقد جرى عمل جماهير العلماء والفقهاء عليه، فيطلقون صيغة الترضي على غير الصحابة من سلف هذه الأمة، ومن مشايخهم وأهل الخير والصلاح في كتبهم وخطبهم. قال الحصكفي من فقهاء الحنفية: (ويستحب الترضي للصحابة، وكذا من اختلف في نبوته كذي القرنين ولقمان، ... والترحم للتابعين ومن بعدهم من العلماء والعباد وسائر الأخيار، وكذا يجوز عكسه: الترحم للصحابة والترضي للتابعين ومن بعدهم على الراجح ذكره القرماني، وقال الزيلعي: الأولى أن يدعو للصحابة بالرتضي، وللتابعين بالرحمة، ولمن بعدهم بالمغفرة والتجاوز). [الدر المختار: 6/754].
أقوال العلماء
قال النووي في "المجموع": "يُسْتَحَبُّ التَّرَضِّي والتَّرَحُّم على الصحابة والتابعين فَمَنْ بَعْدَهُم من العلماء والعُبَّادِ وَسَائِرِ الأخيار؛ فيقال: "رضي الله عنه"، أو "رَحْمَةُ الله عليه"، أو رحمه الله ونحو ذلك.
قال النفراوي من المالكية عن جمع من العلماء: (إنه يستحب الترضي والترحم على الصحابة والتابعين ومن بعدهم، ولا تختص الترضية بالصحابة، والترحم بغيرهم، خلافا لبعضهم). وقال النووي من الشافعية : (يستحب الترضي والترحم على الصحابة والتابعين فمن بعدهم من العلماء والعباد وسائر الأخيار، فيقال: رضي الله عنه، أو رحمة الله عليه، أو رحمه الله، ونحو ذلك، وأما ما قاله بعض العلماء: إن قول: "رضي الله عنه" مخصوص بالصحابة، ويقال في غيرهم رحمه الله فقط فليس كما قال، ولا يوافق عليه، بل الصحيح الذي عليه الجمهور استحبابه، ودلائله أكثر من أن تحصر).
يقول الشيخ خالد الرفاعي : فإن عبارة: "رضي الله عنه" خبر يفيد الدعاء ومعناها: اللهم ارضَ عنه. وعليه؛ فيجوز الدعاء وطلب الرضى من الله لكل مسلم؛ وإن لم يكن صحابيا؛ قال تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ* جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ} [البينة:7،8].
والذي عليه جمهور الأمة أنها لا تختص بالصحابة، بل يجوز إطلاقها على التابعين ومن بعدهم من أهل العلم والصلاح، في مكاتبتهم ومخاطبتهم، كما يصح أن يُتَرَحَّم على الصحابة وغيرهم دون ذكر الترضِّي، فالمسألة لم يرد فيها نص يأمر بشيء من ذلك، أو ينهى عنه، وإنما هو شيء استحسنه الناس.
قال عبد الله بن عبد الرحمن الجبرين : يجوز ذلك في حق الصالحين والعُبَّاد الزاهدين، والعُلماء المُصلحين من التابعين وتابعي التابعين وأئمة عُلماء الأمة من أهل السُنة الذين نصروا الدين واشتهر عنهم ما قاموا به من العلم والعمل والإصلاح والنفع للأمة كالأئمة الأربعة وعُلماء أهل السُنة والجماعة، ولكن اشتهر اصطلاح العلماء على تخصيص الصحابة بالترضِّي لقول الله تعالى: {وَالسَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ} واصطلحوا على أن غير الصحابة يُترحَّم عليهم غالبًا ويُدعى لهم بالجنة والكرامة، ولم يمنعوا من الترضي عنهم؛ فإن الله تعالى قد أخبر بأنه قد رضي عن عباده المؤمنين كما في آخر سورة المُجادلة وآخر سورة البيّنة، وأما الأنبياء والرُسل فاصطلحوا على أنه يُسلم عليهم فيُقال عن موسى (عليه السلام)، وعن إدريس ونوح وإبراهيم وإسماعيل ونحوهم (عليهم السلام)، ويأتي أيضًا أن يُقال عن أحدهم (عليه الصلاة والسلام) أو (صلى الله عليه وسلم)، ولا مانع من ذلك.