موت النفس شرط للوصول إلى الله
ومنها: فلا وصول إلى الله إلا من باب موت النفس ولو عمل العامل ما عمل، وموتها يكون بمخالفتها، وبترك رأيها بالكلية، واتباع رأي أهل السنة المحمدية - رضي الله عنهم -، وأما من وقف مع رأيها وظن أنه لا يصل إلى ربه إلا بعد فناء مساويه ومحو دعاويه، لم يصل إليه أبدًا، إذ لا وصول إليه إلا بمحض كرمه، إذ قال تعالى : {فَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَكُنتُم مِّنَ الْخَاسِرِينَ} {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ} {وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَىٰ مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ أَبَدًا}.
وقال صلى الله عليه وسلم : ( لَنْ يُدْخِلَ أَحَدًا عَمَلُهُ الجَنَّةَ"، قَالُوا: وَلاَ أَنْتَ يَا رَسُولَ اللَّهِ؟ قَالَ: "لا، وَلا أَنَا، إِلَّا أَنْ يَتَغَمَّدَنِي اللَّهُ ِبرَحْمَتِهِ ) إلى غير هذا.
وأؤكد عليكم أن تعملوا على إسقاط منزلة أنفسكم، وأن تحذروا غاية جهدكم من الوقوع في المحرمات والمكروهات التي عنها نهاكم ربكم، لئلا تنقلب حقيقتكم النورانيّة إلى حقيقة ظلمانية، وأن لا تحملوا ما ليس على ظهوركم باشتغالكم بتدبيركم واختياركم، وبشدة اهتمامكم بما تكفل الله به لكم وهو رزقكم، وأن تحملوا ما تواجهون به من الناس من المكاره، وأن تكفوا إذايتكم أنتم عنهم، إذ لا يخفاكم أنَّ قطب التصوف كفُّ الأذى واحتمال الأذى، وكل بقية فيكم من صفة العامة فاتركوها، ونافسوا في ضدها، ولتكن همتكم دائمًا عليَّة غير دنيَّة، وقد قلَّ في هذا الزمان غاية من علت همَّته، إذ لا ترى فقيرًا ولا عالمًا، ولا شريفًا إلا وترى همَّته دنيَّة غير عليَّة، إذ الناس كلهم ما نزلوا بهممهم إلا على الدنو وهو الدنيا، وعلى حبِّ الجاه، ولا حول ولا قوة إلا بالله، فلذلك هبطوا إلى أسفل، ولم يطلعوا إلى فوق. فارحلوا يا إخواني بقلوبكم من عالم الشهوات الفانية إلى عالم الشهوات الباقية، وتقدموا إليه ولا تتأخروا، إذ ما تأخَّر إلا أهل الغفلة، وأما أهل اليقظة فقد تقدَّموا، أو نقول : رحلوا.
وعلى أي شيء اعتمد مريد الوصال منكم وقد ترك أسباب الدنيا وأسباب الآخرة ؟ فيا عجباً ممن ينتقم - أي يكره وينفر - من التسبب في صلاح نفسه ويقول : لو تركت أسبابي واشتغلت بربي لكان خيرًا لي ممّا أنا عليه، مع أن له أوقاتًا ضائعة في غير الاشتغال بربه وهو لا يراها ولا ينتقم منها، فهذا هو الخدلان، وهذا هو الخسران، إذ لا يناسبه أن ينتقم من التسبب في صلاح نفسه ولا في صلاح عياله، حتى لا يضيع حق ربه في وقت من أوقاته، والسلام.