ولنذكر كلام صاحب العوارف في الحال والمقام لما اشتمل عليه من التحقيق والفوائد.
قال : (قد كثر الاشتباه بين الحال والمقام، واختلفت إشارات الشيوخ في ذلك، ووجود الاشتباه لمكان تشابههما في نفسهما وتداخلهما، فتراءى للبعض الشيء حالًا وتراءى للبعض مقامًا، وكلا الرؤيتين صحيح؛ لوجود تداخلهما، ولا بد من ذكر ضابط يفرق بينهما، على أن اللفظ والعبارة عنهما مشعر بالفرق، فالحال سمي حالًا لتحوله، والمقام مقامًا لثبوته واستقراره.
وقد يكون الشيء بعينه حالًا ثم يصير مقامًا مثل أن ينبعث من باطن العبد داعية المحاسبة، ثم تزول الداعية بغلبة صفات النفس، ثم تعود، ثم تزول فلا يزال العبد حال المحاسبة يتعاهد الحال، ثم يحول الحال بظهور صفات النفس إلى أن تتداركه المعونة من الله الكريم، ويغلب حال المحاسبة، وتنقهر النفس وتنضبط، وتتملكها المحاسبة، فتصير المحاسبة وطنه ومستقره ومقامه، فيصير في مقام المحاسبة بعد أن كان له حال المحاسبة.
ثم ينازله حال المراقبة، فمن كانت المحاسبة مقامه يصير له من المراقبة حال.
ثم يحول حال المراقبة لتناوب السهو والغفلة في باطن العبد إلى أن ينقشع ضباب السهو والغفلة، ويتدارك الله عبده بالمعونة، فتصير المراقبة مقامًا بعد أن كانت حالًا، ولا يستقر مقام المحاسبة قراره إلا بنازل حال المراقبة، ولا يستقر مقام المراقبة قراره إلا بنازل حال المشاهدة، فإذا منح العبد بنازل حال المشاهدة استقرت مراقبته، وصارت مقامه، ونازل المشاهدة أيضًا يكون حالًا يحول بالاستتار، ويظهر بالتجلي، ثم يصير مقامًا، وتتخلص شمسه عن كسوف الاستتار، ثم مقام المشاهدة أحوال وزيادات وترقيات من حال إلى حال أعلى منه، كالتحقق بالفناء، والتخلص إلى البقاء، والترقي من عين اليقين إلى حق اليقين، وحق اليقين نازل يخرق شغاف القلب، وذلك أعلى فروع المشاهدة.
ولما كان الأصل في الأحوال هذه الحالة وهي أشرف الأحوال، وهي محض موهبة لا تكتسب سميت كل المواهب من النوازل بالعبد أحوالًا؛ لأنها غير مقدورة للعبد بكسبه فأطلقوا القول، وتداولت ألسنة الشيوخ أن المقامات مكاسب، والأحوال مواهب وعلى الترتيب الذي درجناه كلها مواهب؛ إذ المكاسب محفوفة بالموهبة، والمواهب محفوفة بالكسب، فالأحوال مواجيد، والمقامات طرق المواجيد، ولكن في المقامات ظهر الكسب وبطنت الموهبة، وفي الأحوال بطن الكسب وظهرت الموهبة، فالأحوال مواهب علوية سماوية، والمقامات طرقها.
وقول أمير المؤمنين علي بن أبي طالب رضى الله عنه: سلوني عن طرق السماوات؛ فإني أعرف بها من طرق الأرض، إشارة إلى المقامات والأحوال، فطرق السماوات: التوبة والزهد وغير ذلك من المقامات، فإن السالك لهذه الطرق يصير قلبه سماويًّا، فهي طرق السماوات ومستنزل البركات وهي الأحوال لا يتحقق بها إلا ذو قلب سماوي.قال بعضهم: الحال هو الذكر الخفي، وهذا إشارة إلى شيء مما ذكرناه.
وسمعت بعض المشايخ بالعراق يقولون: الحال ما من الله، فكل ما كان من طريق الاكتساب والأعمال يقولون: هذا ما من العبد، فإذا لاح للمريد شيء من المواهب والمواجيد قالوا: هذا ما من الله وسموه حالًا إشارة منهم إلى أن الحال موهبة.
وقال بعض مشايخ خراسان: الأحوال مواريث الأعمال.
وقال بعضهم: الأحوال كالبروق، فإن بقي فحديث النفس، وهذا لا يكاد يستقيم على الإطلاق، وإنما يكون ذلك في بعض الأحوال ؛ فإنها تطرق ثم تستلبها النفس، فأما على الإطلاق فلا، والأحوال لا تمتزج بالنفس، كالدهن لا يمتزج بالماء. وذهب بعضهم إلى أن الأحوال لا تكون إلا إذا دامت، فأما إذا لم تدم فهي اللوائح والطوالع والبواده، وهي مقدمات الأحوال وليست بأحوال.
ثم قال : فعلى ما ذكرناه يتضح تداخل المقامات والأحوال حتى التوبة، ولا تعرف فضيلة إلا فيها حال ومقام، وفي الزهد حال ومقام، وفي التوكل حال ومقام، وفي الرضا حال ومقام.
قال أبو عثمان الحيري: منذ أربعين سنة ما أقامني الله في حال فكرهته، أشار إلى الرضا، ويكون منه حال ثم يصير مقاماً، والمحبة حال ومقام، ولا يزال العبد يتتوب بطروق حال التوبة حتى يتوب، وطروق حال التوبة بالانزجار أولًا.
قال بعضهم: الزجر هيجان في القلب لا يسكنه إلا الانتباه من الغفلة فيرده إلى اليقظة، فإذا تيقظ أبصر الصواب من الخطأ.
وقال بعضهم: الزجر ضياء في القلب، يبصر به خطأ قصده، والزجر في مقدمة التوبة على ثلاثة أوجه: زجر من طريق العلم، وزجر من طريق العقل، وزجر من طريق الإيمان؛ فينازل التائب حال الزجر وهي موهبة من الله تعالى، تقوده إلى التوبة، فلا يزال بالعبد ظهور هوى النفس يمحوه آثار حال التوبة والزجر حتى تستقر، وتصير مقامًا وهكذا في الزهد لا يزال يتزهد بنازلة حال، تريه لذة ترك الإشغال بالدنيا، وتقبح له الإقبال عليها فتمحوه أثر حاله بدلالة شره النفس وحرصها على الدنيا ورؤية العاجلة حتى تتداركه المعونة من الله الكريم، فيزهد ويستقر زهده، ويصير الزهد مقاماً، ولا تزال نازلة حال التوكل تقرع باب قلبه حتى يتوكل، وهكذا حال الرضا حتى يطمئن على الرضا، ويصير ذلك مقامه).
محل الحاجة منه، فالزجر وقوع نطفة التوفيق في رحم القلب، ثم بعده علقة الانتباه ثمّ بعد ذلك مضغة اليقظة، ثم بعده عظام فرع باب التَّوبة ثمّ كسو تلك العظام بلحم المجاهدة والمحاسبة والمراقبة، ثمّ ينشأ خلقًا آخر بنفخ روح التحقق في مقامات الإنزال، وغير ذلك إلى الاستقرار في حضرة ذي الجلال.