شرح حزب البحر للإمام أبي الحسن الشاذلي
للشيخ عبد الرحمن بن محمد الفاسي
﴿وَإِذَا جَاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآَيَاتِنَا فَقُلْ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءًا بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ﴾ [الأنعام: 54].
كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلَى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ
- آية الاستفتاح
- سر الأسرار المانع من الأضرار
- كيف حج (آدم) (موسى) ؟
- الجرعة الأولى من دواء النفوس الخبيثة
- من تقرب إلى الله شبراً
- فرح الله بتوبة عبده المؤمن
(ثم الذي يظهر في سر استفتاحه بآية إن الله اشترى) ما في ذلك من تذكير المتوجه بتنبيهه لطريق القصد إلى الله تعالى وهو إلقاء النفس سلما بين يدي الله تعالى من غير تدبير معه ولا منازعة فيما يجرى عليه وهو مبنى طريق الصوفية ومناط العبودية وهذا المعنى هو الذي حام عليه صاحب "التنوير في إسقاط التدبير" وضمنه كتابه، ولما تحقق بذلك القرنبالي، كان كثيراً ما يجري في كلامه : (أنا مالي فياش إش علي مني) وكان ينشد كثيراً ما قاله البرزلي رضي الله عنه :
فلا الرفع أرجوه ولا الخفض أتقي لأني منصوب لكل العوامل
يشير إلى نفوذ تصاريف القدر وتحقيقه بذلك، فلا أمل له ولا أمنية في شيء،ولا خوف من شيء،وقد استوت الحالات عنده كما قيل:
أصبحت لا أمل ولا أمنية أرجو ولا موعدة اترقب
وقد قيل لبعضهم : "فوض أمرك إلى الله تعالى، فقال : ليس لي أمر حتى أفوضه إليه" وهذه التجردة عن وجوده وانقطاعه عن كسبه وعزمه، وقد قال الله تعالى : {وَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَقَلْبِهِ} و{لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ}. وهو موقف التحقيق والأخد عن الإرادة بالغيبة في الحقيقة والفناء في التوحيد والتجرد عن التعلق بالحق والخلق، فإن رد إلى البقاء يكون كما قال الشاذلي : (إنما يكون قلبه متعلِّقاً بالله) قال : (وما دام قلبه متعلِّقاً بعلمه وحوله وقوته فليس براج الله حتى ييأس من الشكل متعلقاً بالله في كل نَفَس، فحينئذ تجدد الروح والمدد من الله تعالى، ويقطع بذلك النور عن النظر إلى غير الله ويضيق عليه بالقرب من الله من حيث يجمعه عليه من غير التفات لسواه).
هذا وفي رواية : {إنَّ الله اشْتَرَى} إيماء رحمته تعالى لتنزله لعبده بالاشتراء، وملاطفة في نسبة تسليمه له حاله، وكل العبيد له، والجائر عليهم منه وإليه.
لكن يترجح الاستفتاح الآخر الذي عليه العمل لأن آية الاشتراء تشير لنسبة شيء من العبد له وللعوض، وكل ذلك ينبو عن مذهب الصوفية أهل الحقيقة، ولذلك قال ابن الوفا رضي الله عنه :
لو لم أكن عبداً لكنت وهبته روحي وتلك هدية الفقراء
وهو أبلغ في العبودية من قول العارف ابن الفارض :
مالي سوى روحي وباذل روحه في حب من يهواه ليس بمسرف
وقد أومات الأمر بتخصيص الاشترى من المؤمنين دون النبي إلى تخليص غير النبي مما في النفس من الدعوى، ولا كذلك النبي، فإنه كامل مخلص من ذلك من أول نشأة، فهو متمحض للحرية من دعوى النفس بخلاف غيره ولو صديقا، فإنه يقع عليه الأسر من النفس حتى يخلص بالجزية.