آخر الأخبار

جاري التحميل ...

سر الأسرار ومظهر الأنوار فيما يحتاج إليه الأبرار - 18


الفصل الثّاني والعشرون

في بيان الوقعات في المنام والسِّنَةِ


فالوقعات معبِّرة في النّوم والسِّنة كما قال الله تعالى : {لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيَا بِالْحَقِّ}وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم : "لَمْ يَبْقَ مِنَ النُّبُوَّةِ إلَّا المُبَشِّرَاتِ..." يراها المؤمنون أو تُرى لهم كما قال الله تعالى : {لَهُمُ الْبُشْرَىٰ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الْآخِرَةِ}، والمراد منه الرؤيا الصالحةُ في قول البعض كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِت وأربَعينَ جُزْءًا مِنَ النُّبُوَّةِ" وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : "من رآني في المنام فقد رآني في اليقظة لأن الشيطان لا يَتَمَثَّلُ بي وبِمَنْ تَبِعَنِي" أي : تابعني بنور عمل الشَّريعة والطّريقة والمعرفة، وبنور الحقيقة والبصيرة. كما قال الله تعالى {أَدْعُو إِلَى اللَّهِ عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي}.

فلا يتمثَّل الشيطان بهذه الأنوار اللَّطيفة.


قال صاحب المظهر : هذا ليس للاختصاص بالنبيّ صلى الله عليه وسلم، بل لا يتمثَّل بكلِّ ما هو مظهر الرَّحمة واللّطف والهداية كجميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام والأولياء والكعبة والشّمس والقمر والسّحاب الأبيض والمصحف وأمثال ذلك لأنّ الشيطان مظهر القهر، فلا يظهر إلّا في صورة الاسم المضلّ فمن كان مظهر للاسم الهادي كيف يظهر بصورته، فالضدّ لا يظهر بصورة الضّد لما بينهما من التّنافر والبعد، وليميِّز الحقّ والباطل كما قال الله تعالى: {كَذَٰلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَالْبَاطِلَ}.

وأمّا تمثّله يكون في صورة الربوبيّة، ودعوى الربوبية يجيء منه لأنّ صفة الله جلال وجمال، والشيطان يتمثّل بصفة الجلال لأنه مظهر القهر فظهور تمثّل ربوبيته، ودعواه من اسم المضلّ فقط كما مرّ، ولا يظهر في صورة اسم الجامع لما فيه من معنى الهداية، وفيه كلام كثير يطول شرحه وقوله تعالى : {عَلَى بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي} إشارة إلى الوارث الكامل المرشد - أي : الإرشاد بعدي لمن له بصيرة باطنة مثل بصيرتي من وجه - والمراد منه الولاية الكاملة كما أشار إليه بقوله : {وَلِيًّا مُرْشِدًا}.

ثم اعلم أن الرؤيا على نوعين : آفاقي، وأنفسي. وكل واحد منهما نوعين.


فالأنفسي : إمّا من الأخلاق الحميدة أو الذّميمة. فالحميدة مثل رؤية الجنان ونعيمها، ومثل الحور والقصور والغلمان والصحراء النّوراني الأبيض، ومثل الشمس والقمر والنجوم وما أشبه ذلك متعلِّق بالقلب.

وأمّا ما يتعلّق بالنفس المطمئنّة مثل مأكول اللّحم من الحيوانات والطّيور؛ لأنّ معيشة المطمئنة في الجنة تكون بهذه الأنواع كشويّ الغنم والطّيور. وأما البقر فهو آت من الجنة لآدم عليه الصلاة والسلام لأجل زراعته في الدنيا. والإبل أيضاً لأجل سفر كعبة الظاهر والباطن.

وأما ما يتعلق منها بالروح فكالشاب الأمرد، تتجلى عليه الأنوار الإلهية؛ لأن أهل الجنة كلهم على هذه الصورة كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " رَأَيْتُ رَبِّي بِصُورَةِ شَابٍّ أَمْرَدٍ". قال بعضهم : المراد من هذه الصورة تجلِّي الحق بصفة الربوبية على مرآة الروح، وهو الذي يسمّونه طفل المعاني؛ لأنه مربِّ الجسد، ووسيلة بينه وبين الربّ. وقال أمير المؤمنين علي بن أبي طالب كرّم الله وجهه : "لولا المربي لما عرفتُ ربّي"، وهذا المربي مربي الباطن، وهو إنما يحصل بسبب تربيّة مربّ ظاهريّ بالتلقين، فالأنبياء والأولياء مربّو القوالب ومربّو القلوب ما يحصل من تربيتهم من لقاء الرّوح الآخر كما مرّ، كما قال الله تعالى : {يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ}.

قال الإمام الغزالي رحمة الله عليه: يجوز أن يُرى الرّبُّ في المنام على صورة جميلة أخروية على هذا التأويل المذكور. قال : لأن مثل المرئيّ مثال ما يخلقه الله تعالى على قدر استعداد الرّائي ومناسبته، وليس الحقيقة الذّاتية، لأن الله تعالى منزّه عن الصّورة، أو يُرى بذاته في الدّنيا كرؤية النبي صلى الله عليه وسلم وعلى هذا القياس يجوز ان يُرى في صورة مختلفة على قدر مناسبة استعداد الرائي، ولا يرى الحقيقة المحمّديّة إلّا الوارث الكامل في عمله وعلمه وحاله وبصيرته، ظاهرًا وباطنًا، لا في حاله. وكذا في شرح المسلم : يجوز رؤية الله تعالى في الصورة البشريّة النّورانيّة على التّأويل المذكور. والقياس على تجلّي كلّ صفة على هذا النهج كما تجلّى لموسى عليه الصلاة والسلام في صورة النار من شجر العنّاب كما قال الله تعالى : {... لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ نَارًا لَّعَلِّي آتِيكُم مِّنْهَا بِقَبَسٍ...}، ومن صفة الكلام كما قال الله تعالى : {وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَىٰ} وكانت تلك النار نورًا، لكن سُمِّيت ناراً على زعم موسى عليه الصلاة والسلام وطلبه، وليس الإنسان أدنى مرتبة من الشجرة، فلا عجب أن يتجلّى بصفة من صفات الله تعالى في الحقيقة الإنسانية بعد التصفيّة من الصِّفات الحيوانيّة إلى الإنسانيّة كما تجلّى على بعض الأولياء كأبي يزيد البسطاميّ حيث قال : "سبحاني ما أعظم شأني". وفي ذلك المقام لطائف عجيبة لأهل التصوف يطول شرحها.

ثمّ في التربية لا بدّ من المناسبة، فالمبتدئ من أول أمره لا مناسبة بينه وبين الله وبين نبيّه صلى الله عليه وسلم فاحتاج لا محالة إلى تربية الوليّ أوَّلًا، لأنَّ الوليّ مناسبة بينه وبين المبتدئ من جهة البشريّة كما للنبيّ صلى الله عليه وسلم حال حياته فإذا كان النبي صلى الله عليه وسلم في الحياة الدنيا لما احتاج أحد إلى غيره، فإذا انتقل إلى الآخرة لا يصل أحدًا منهم الإرشاد إلى المقصود فافهم إن كنت من أهل الفهم. وإن لم تكن فاطلب الفهم بالرياضة النّورانيّة الغالبة على النّفسانيّة الظّلمانيّة لأنّ الفهم يحصل بالنورانيّة لا بالظلمانيّة ولأنّ النُّور لا يجيء بموضع إلّا يكون مُدْنِيًا مُشرقًا، فلم يبق للمبتدئ مناسبة له.

وأما الوليّ الذي يكون في الحياة فله مناسبة، لأن له جهتين التعلّقيّة الجسمانيّة، والتجرديّة الرّوحانيّة، من جهة الوراثة الكاملة، فيتوالى إليه مدد الولاية النبويّة من النبيّ صلى الله عليه وسلم ويتعرّف بها الناس. فافهم فإنّ وراء ذلك سرًّا عميقًا يدركه أهله. قال الله تعالى : {وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ}.

التعليقات


اتصل بنا

إذا أعجبك محتوى موقعنا نتمنى البقاء على تواصل دائم ، فقط قم بإدخال بريدك الإلكتروني للإشتراك في بريد الموقع السريع ليصلك جديد الموقع أولاً بأول ، كما يمكنك إرسال رساله بالضغط على الزر المجاور ...

جميع الحقوق محفوظة

نفحات الطريق الصوفية