الحديث عن "الفكر" شبيه بالحديث عن "العقل"، فكلاهما مصدر نقل إلى الاسمية في الاستعمال العربي الذي يقرب بين معنيهما أحيانا وأحيانا أخرى يخص كلا منهما بمعنى يتأرجح بين التجسيد والتجريد. وغالبا ما يقرن الفكر بالتأمل الذهني وما ينتح عنه من معان وقيم تنسب إلى أصحابها أفرادا أو مذاهب أو جماعات. ومن شأن الفكر البشري أن يـتطور تقدما أو تأخرا وأن يختلف المفكرون وتتعارض أفكارهم وقد يكمل بعضهم بعضا كما أن من شأن الفكر كذلك التأثير والتأثر.
والدين وحي أساسا بالتوحيد وبحقائق عليا وكليات شاملة ونهائية لا مطمع للفكر البشري في إدراكها، بل إنه ممنوع شرعا من تناول بعضها كذات الله سبحانه، لكن التصديق بتلك الحقائق هو آلية الإيمان الغيبي بها للعمل بمقتضاها. غير أن المؤمن مطالب بإعمال فكره لاستنباط أحكام الفروع والنوازل وإدراك بعض أسرار العبادات والمخلوقات استزادة للإيمان والعمل النافع للبشرية، فمحتوى الفكر ينبغي أن يكون هو الاعتقاد الغيبي بوحدانية الله وما أوحى به أولا ثم ما ينتج عن التفكر في الخلق مما ينفع الناس. من هنا كان لا بد أن يخضع هذا الفكر - أو التفكير - لتوجيه وتربية حتى لا ينحرف أو يتضمن ما لا ينفع أو ما يكون فسادا في الأرض، وحتى يكون الفكر سويا سليما كما أراد الخالق أن يكون.
وتاريخ الفكر الإنساني والإسلامي نفسه مليء بما لم يكن في صالح الإنسان ولا المسلمين، كما أننا اليوم نشاهد من التجني على الإنسان وعلى المسلمين ما كان أكثره من نتاج الفكر المفصول عن الوحي الإلهي أو الذي أراد أن يتجاوز هذا الوحي.
فالفكر السوي هو الذي يرجع إلى الفطرة المقومة بالتربية السليمة ليتعامل مع الشرع الإسلامي بالتلقي لا بالتحكم، لأن الشارع الحكيم يشترط تغيير ما بالنفس أولا كما في الآية الكريمة، و (الكتاب لا ريب) أن (فيه هدى) ولكن (للمتقين الذين يؤمنون بالغيب ...) (الآية)، والإيمان بالغيب الموحى به يزيد وينقص فيحتاج إلى تربية لزيادته، وهذا الإيمان هو الذي يثمر من الفكر ما ينفع. وقد صورت السنة المطهَّرة الفرد أو الجماعة جسدا لا يصلح إلا بصلاح القلب، ولا صلاح للقلب إلا بتزكية موروثة عن التزكية النبوية.
إن أي تجديد فكري لا يمكن إلا أن يبدأ بتجديد إيماني وقد أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بتجديد الإيمان كما بين أن أن ذكر الله أنجع وسيلة لهذا التجديد لأن القلوب تصدأ كم يصدأ الحديد، ومن ثم نجد أن أهم وسيلة يستعملها شيوخ التربية الصوفية هي الإكثار من ذكر الله، وعلى الخصوص كلمة التوحيد (لا إله إلا الله) لأن غاية التربية على التوحيد هو التحقق بالعبودية لله وحده من دون الخلق والهوى، ولأن التربية مستمدة من معنى الربوبية الذي لا يناسبه من جانب العبد إلا الأخلاق المحمدية التي هي النموذج الأمثل للإنسان، وهذه الأخلاق تحتاج إلى تربية كما أن الفكر سلوك أيضا ينبغي أن يخضع لهذه الأخلاق حتى يكون ربانيا لا حكم للهوى عليه.
■ كيف يصبح الحديث عن دور تجديدي تقوم به الزاوية في ظرفية تتسم بتصاعد أصوات سلفية المذهب تؤسس أدبياتها على نصوص قرآنية ونبوية شريفة لا تتردد في تبديع ممارسات الزوايا عموما ؟
القرآن والحديث هما المصدران المرجعيان لكل فكر أو عمل في الإسلام، ولا يجوز أن يقع الخلاف في كونهما أساس التشريع والسلوك، غير أن كيفية التعامل مع نصوص هذين المصدرين هو مظنة الخلاف أحيانا. ومنذ البدء كان الإيمان والعمل معا مفتاح التجدد الفردي والجماعي في الإسلام، لأن هذا المفتاح هو الذي يفتح باب الفكر على المعرفة والفهم، ذلك أن "نظرية" المعرفة في الإسلام تستند إلى آلية العمل بإيمان، والإيمان يستلزم حال المحبة، وهذا النوع من الإيمان هو مسبار النصوص وأداة تمحيص حقائقها. أما مصطلح "السلفية" أو "السنية" فهو لا يعدو أن يكون مزايدة أو لافتة تستعملها بعض الجهات أو التنظيمات للإغراء والتغرير، مما يخلق في الأمة شروخا وافتراقا، وهناك فرق بين التسمية باسم تخصيصي، وهي سنة كونية، وبين الانتساب إلى السنة أو السلف رميا للغير بأنهم غير سنيين أو مخالفون للسلف، ومن هنا تتحمل جهات معينة وزر اتهام أهل القبلة بالابتداع والتكفير دون تورع أو تفكير،وقد ظهر اليوم عوارها للعالمين.
■ ولكن ثمة نصوص مؤسسة لمنظومة "البدعة" نطلع عليها في أدبيات "التيارات السلفية" عموما ؟
لقد تناول العلماء موضوع البدعة بالدرس والتصنيف العلمي الرصين كالإمام عز الدين بن عبد السلام والعلامة عبد الله بن الصديق الحسني، ولم يتركوا فيه مجالا للجهلة السطحيين، كما أن كثيرا من علماء الأمة تناولوا دعوى السلفية بالتمحيص والتقويم أمثال سليمان بن عبد الوهاب - وهو أخ محمد بن عبد الوهاب الذي تنسب إليه نحلة الوهابية - في كتابه "الصواعق الإلهية في الرد على الوهابية" والسيد أحمد بن زيني دحلان في كتابه "الدررالسنية في الرد على الوهابية" ومحمد حسين آل كاشف الغطاء في "نقض فتاوى الوهابية" والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي في كتابه "السلفية مرحلة زمنية مباركة لا مذهب إسلامي".
إن دور الزاوية الصوفية في تاريخ المسلمين هو القيام بفتح أقفال التقليد والابتداع التي رانت على قلوب الناس حتى يستطيعوا تدبر القرآن والعمل به لمزيد فهمه وتدبره من جديد. وقد لا يتسع المجال لسرد أدوار الزوايا المغربية في تجديد الإيمان في الأعماق ونشر الدين في الآفاق، ويكفي شاهدا على ذلك التجديد كثرة الأولياء ببلادنا ودليلا على هذا النشر أكثر بلاد أفريقيا وبعض بلدان الشرق الأدنى والأقصى.
والتجديد في فلسفة التصوف هو تجديد للإنسان كليا انطلاقا من قلبه ليتجدد عمله وفهمه، وذلك ما تروم الزاوية القادرية البودشيشية وشيخها القيام به في هدوء وثبات دون مغالاة ولا تهريج، وذلك بالاشتغال بذكر الله وتطهير القلوب من سواه دون الاشتغال بالغير والوقوع في اغتياب المسلمين والتفريق بينهم، فمن مبادئ التربية العملية للزاوية أن يتحقق أفرادها بالتوحيد على المستوى الفردي لينجمع شمل الإنسان على الله، وعلى المستوى الجماعي ليجتمع شمل المسلمين على المحبة في الله، فلا معنى للنصوص في طريق القوم إلا أن ينفعل بها الناس ويتفاعلوا معها فتصبح دماء تجري في عروقهم وروحا تحركهم، وإلاّ فالنصوص نفسها قد تفرقهم كما حصل للأجيال التي تلت الصدر الأول والسلف الصالح إذ شُردمت الملل والنحل كثيرا من تلك الأجيال وكان من أهم أسباب تشرذمها الخلاف حول فهم النصوص.
والتجديد الصوفي لا يروم الرجوع بالناس إلى نمط مظهري وحيد أو نموذج شكلي فريد من الحياة التي عاشها الأسلاف، كما يروم ذلك بعض الناس انطلاقا من تصوراتهم لمعاني النصوص، وإنما التجديد في المسلك الصوفي إيقاظ لجذوة الإيمان في القلوب دون مجافاة مبدئية لمقتضيات العصر من جهة، ودون انسياق أعمى لهذه المقتضيات، وهذه الاستقامة على التوسط هي أصعب معادلة يعانيها الإنسان المسلم في هذا العصر، ولا يساعد على حل إشكالها عمليا للإفلات من تطريفها إلا أن يرحم الله عبده بقدوة صالحة تقيه وساوس النفس ومزالق الحياة.
■ كيف تردون على الملاحظات والانتقادات التي تروج حول إشكالية حضور ودور الشيخ في التربية لدى الطرقية بصفة عامة، ولدى الزاوية البودشيشية خاصة ؟
أولا الملاحظات والانتقادات لم يسلم ولن يسلم منها أحد، وقد استهدفت حتى الأنبياء والرسل عليهم السلام، فلا غرابة فيها خصوصا في هذا العصر الذي ابتعد فيه الناس عن أكثر القيم والمكارم واشتغلوا بالسفاسف والاعراض. أما حضور الشيخ ودوره في التربية الروحية فهو عنصر ضروري في هذه التربية، إذ لا تربية من غير مرب أصلا.
سبق ان أثير نقاش في القرن الثامن الهجري بالأندلس مداره خلاف بين من يؤكد على ضرورة الشيخ في التربية الصوفية وبين من يرى إمكان الاستعاضة عنه بكتب القوم، وأدى هذا الخلاف إلى اسفتاء بعض علماء المغرب في الأمر فكانت أجوبة كل من القباب وابن عباد شافية في الموضوع، وهي منشور في "المعيار" للوننشريسي، ثم إن ابن خلدون ألف في تفصيل هذا الموضوع كتاب "شفاء السائل لتهذيب المسائل" ولخص الشيخ زروق آراء هؤلاء جميعا في قواعه وفي "عدة المريد". والجدير بالملاحظة أن سلوك الطريق الصوفي لم يكن موضوع الخلاف بين أولئك المختلفين، كما أن المجيبين عموما ما يبيحوا الاقتداء بكتب التصوف إلا عند انعدام الشيخ، بل لم يجوزا من الكتب إلا ما كان متضمنا لمجاهدة التقوى والاستقامة، أما الترقية والكشف فقد أوجبوا فيه الشيخ حتما، كما أنهم اعتبروا حال المتلقي لما في الكتب إذ لا يستفيد منها في السلوك إلا الذكي اللبيب، ومع ذلك فإنه لا يسلم من رعونة نفسه كما نص على ذلك الشيخ زروق.
ولما غدا لفظ الشيخ غريبا ومنفرا لبعض النفوس، وهو مجرد اصطلاح مع أن جميع العلوم كانت تؤخد عن الشيوخ، فإنه يمكن الاستعاضة عنه بما يحمل مضمونه الشرعي كالصاحب أو الأخ في الله أو الرفيق في الطريق إلى الله، وهذه المصطلحات هي التي يستعملها سيدي جمال الدين بن حمزة إذ يرى أن ما يجمعه بمريدي الله عز وجل وهو أخوة ومحبة في الله تقتضي التعاون على البر والتقوى كما هو مأمور بهن وذلك من إصلاح القلوب وتوحيدها، والعبرة في كل هذا بالنتائج التي يجنيها كل من استفاد من هذه الصحبة وهي نتائج تتجلى في محبة الله ورسوله والمؤمنين وزيادة اليقين والصدق في المعاملة والإخلاص في خدمة الصالح العام.
■ ما هي الإضافات النوعية التي جسده الشيخ جمال البودشيشي في الممارسة التربوية مقارنة مع حقبة "الما قبل" ؟
تاريخ الإسلام حافل بنماذج المصلحين الصالحين الذين ورثوا علم التزكية وتجديد الإيمان في القلوب، ووسائل تجديدهم متنوعة ولكنها ذات أصل واحد وهدف واحد، والقاعدة التي كثيرا ما ذكرها الشيخ سيدي جمال هي أن كل مرب يستعمل من وسائل التربية ما يناسب عصره، مع الحفاظ على جوهر الدين وثوابته عملا بأوامر الشرع ووقوفا عند نواهيه.
وإذا ما رجعنا قليلا إلى بدايات القرن الماضي، فإننا نجد عند الكثير من شيوخ التصوف أساليب في التزكية تشبه ما كان متبعا منذ قرون، إذ يشترطون على من يريد سلوك الطريق أن يكون على حظ كبير من الاجتهاد وعلى هيئة معينة، وان يتخلى عن كثير من عوائد حياته الفردية والاجتماعية، وكثيرا ما كان يكلف الشيخ المريد بأعمال تمحص صدق إرادته وتختبر مدى تملكه لنفسه والتحكم في أهوائه.
ولم تخل طريقة سيدي أبي مدين المنور - شيخ سيدي جمال - من بعض التشدد في الورع تشددا كان يمارسه على نفسه ويطالب به أصحابه، مما جعل كثيرا منهم لا يقوون على مصاحبته، فبقيت الطريقة محصورة في عدد قليل، ولم تعرف الانتشار إلا في فترة سيدي العباس الذي احتضن المريدين وحدم عليهم إلى أن استلم سيدي حمزة ومن بعده سيدي جمال مهمة التربية الروحية ففتح الباب على مصراعيه لكل التاائبين والراجعين إلى الله من دون قيد ولا شرط إلا ذكر الله والتزام شرعه، مرددا قوله تعالى : {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانتَهُوا} فأقبل الناس على الله افواجا بعد أفواج وتزايد عدد المريدين من جميع الشرائح والأعمار والأجناس، يخبر بعضهم بعضا بما وجده في اتباع الطريق من رحمة وفضل وصفاء ومحبة؛ وفي هذا المظهر بعض مما وصى به سيدي العباس ابنه سيدي حمزة وذلك بألا يدعي مشيخة ولا إرشادا وان يترك المدد الساري في المريدين هو الذي ينطقهم بما يجدونه في قلوبهم و أحوالهم.