(وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذٰلِكَ غَداً)
إن الله سبحانه أعلم نبيه وأدَّب حبيبه فى منازل العبودية ومشاهد الربوبية بمحو الوجود عند وجود القديم الأزلى وأن يرى الكل قائما بالله فى مقام التوحيد مع الكل فى غير الجمع بائنا عن الكل فى إفراد القدم عن الحدوث وهو محض التجريد والتفريد، وقطع حدود علوم الخليقة عما فى المشية الأزلية، فاعلم معنيين إثبات الكسب وسبق التقدير وأبهم أسرار المشية على الكل فى بيان الاستثناء بقوله { إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ } قال بعضهم : لم يطلق لرسوله صلى الله عليه وسلم أن يخبر عن الحق إلا بما أخبره الحق ولم يأذن له فى الإخبار عن نفسه إلا عن مشية ربه فقال { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ } الخ.
ثم بين سبحانه أن من شاهد نفسه فى مشاهدة الحق حيث طوى عليه أحكام رسوم الاكتساب من جهة الأمر ولم يسقط شهود نفسه وكسبه فقد نسى الحق بقوله :{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ } فإن قوله : { وَٱذْكُر رَّبَّكَ } عقيب قوله : { وَلاَ تَقْولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ } يدل على ذلك أى إذا شاهدت نفسك فقد غبت مشاهدة ربك فاذكره أي شاهده مشاهدة تغيب فى مشاهدة عن مشاهدتك نفسك وأيضا واذكر ربّك إذا كنت متصفا متحدا بربك حين يغلب عليك سر الأنانية فإذا ذكرت ربك فى مقام الأنانية خرجت من حد الخداع والتلبيس الصادرين من مكر القدم وإذا ذكر قدمه بان عدمه وإذا بان عدمه تلاشى الحدث فى القدم ولم يبق إلا القدم ويتبين أمر العبودية عند الربوبية وأيضا واذكر ربّك إذا غبت فى مشاهدات المذكور حتى يتخلص من غمار الفناء فى الوحدانية ويبقى ببقاء الحق ورؤية الأبدية فإنّك إن لم تذكر ربك ولم يرجع من رؤية مذكورك إلى ذكره تفنى فيه ولا تدرك حقائق وجوده فإن السكران الفانى لا يظفر بما يظفر الصاحى المتمكن وأيضا فاذكر ربّك إذا نسيت حظك من مشاهدته وغيب عن شهوده عليك حتى فصل بالذكر إلى رؤية المذكور وأيضا واذكر ربك إذا نسيت ذكرك له فإن رؤية الذكر فى رؤية المذكور نسيان المذكور بالحقيقة وأيضا فاذكر ربك إذا نسيت الكون والحدوثية فإن ذكره لا يكون ذكرا حقيقيا إلا بنعت فناء ما دونه فإذا فنى الحدث فى القدم صار الذكر صافيا وأيضا واذكر ربك إذا نسيت ما وجدت منه فإن الوقوف فى المقامات حجاب ذكر الحقيقة وأيضا واذكر ربك إذا نسيت نفسك فإن فى رؤيتك وجودك وبقاء وجودك لا يكون الذكر بحقيقة الانفراد ورسم إفراد القدم على حدوث ثم أمره سبحانه أن يخاطب أهل السر من المعرفة بترجية وصول أدنى الدنو وأعلى العلو بقوله : { وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً } كان عليه السّلام أقرب الخلق من الله بنفس المعرفة والاصطفائية الأزلية لكن كان مع محله وشرفه فى حيّز حقائق المعرفة قطرة فى بحر الأزلية فأمره الحق أن يسأل منه مزيد ما فيه من طرق حقائق عرفان الأزلية وأقرب ما يكون فيه من وصول الوصول فإن الحق غير متناه من جميع الوجوه قال ابن عطا : "إذا نسيت نفسك والخلق فاذكرنى فإن الاذكار لا تمازج ذكرى" قال الجنيد : "حقيقة الذكر فناء الذاكر فيه والذكر فى مشاهدة المذكور" قال الشبلى : ما هذا خطاب أهل الحقيقة وأنّى ينسى المحق الحق فيذكره بل يذكر حياته وكونه وأنشد :
لا لأني أنساك أكثر ذكراك ولكن بذاك يجرى لسانى |