عطايا الله كلها حسنة فما وافق هواك جعلته خيراً، وما خالفه جعلته شرًّا، {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِنْدِ اللهِ}.
(العطايا) جمع العطية، وهي اسم لما يُعطى أعمّ من أن يكون خيرًا موافقًا لهوانا، أو شرًّا غير موافق له، وإضافته إلى الله للاستغراق، وللإشارة إلى أن الحُكم الذي بعده باعتبار هذا التقيد أي : من حيث إنها عطايا الله لا من حيث إطلاقها وذواتها، و(الحسنة) ضد السيئة أي : عطايا الله تعالى كلها الظاهرة في الكون الجامع، الواصلة إلى مستعديها بواسطة العباد سواء كانوا من البشر كالعلم الحاصل للمتعلم من المعلم، أو من غيره كالعلم الحاصل للكُمَّل بواسطة الملائكة والأرواح البشرية الكاملة وغير ذلك من العطايا أو بغير واسطة العباد، وسواء كانت تلك العطايا ذاتية ناشئة من أحدية جمع جميع الأسماء والصفات من غير خصوصية صفة دون صفة؛ لأن الذات من حيث إطلاقها لا تتجلى ولا تعطي، أو كانت أسمائية بأن تكون من خصوصية صفة من الصفات، وسواء كانت عن سؤال معين أو غير معين كأن يقال : اللهم اعطني شيئا كذا أو اعطني ما هو فيه مصلحتي، والسؤال كان بلسان المقال أو بلسان الحال أو الاستعداد، (حسنة) أي : رحمة وكرامة منه ولطف من حيث أنها منه؛ لأن قدرة الله تعالى لا تنفكُّ منها اللطف.
وقال بن عطاء السكندري رحمه الله : (مَنْ ظَنَّ انْفِكاكَ لُطْفِهِ عنْ قَدَرِهِ فذلكَ لقُصورِ نَظَرِهِ) يعني : عقلًا وعادةً وشرعًا؛ فلأنه ما من بلاء إلا والعقل يحكم بأسوء منه، فيكون هو بالنسبة إلى ما فوقه لطف، وأمّا عادة؛ فلأنها ما وجدت بلية لشخص إلا وجد ما هو أعظم منه بغير، وأما شرعًا؛ فلأن كل بلية إمّا مُكفِّرة لذنوب صاحبها، أو مُوجبة للثواب أو مُخففة للعقاب أو مُبشرة بالمنفعة الدنيوية أو غير ذلك من حقارة النفس وغيرها.
وورد في هذا الباب أحاديث كثيرة منه قوله صلى الله عليه وسلم : (ما يُصِيبُ المُؤمن مِنْ وَصَبٍ إلا كفَّر بِهِ خَطايَاهُ حتَّى الشَّوْكَةِ يُشاكُها).
ومنها ما قال أيضا : (حُمَّى يَوْمٍ كَفَّارَةُ سَنَةٍ).
ومنها ما قال أيضا : (الحمى حظ كل مؤمن من النار).
فعلى هذا العطايا كلّها إمَّا حسنة أوفيها حسنة جمعًا وفرقًا، وليس هذا بمراد الشيخ، بل المُراد أن العطايا كلها من حيث أنها من الله حسنة لا اتّصاف لواحدة منها بكونها شرًّا؛ لأن الاتصاف بكونها شرًّا بالنسبة إلينا حيث قال : (فما وافق هواك جعلته خيرًا، وما خالفه جعلته شرًّا) لعدم فهمك عن الله لأن من فتح باب الفهم له لا يرى إلا خيرًا منه تعالى، بل في الحقيقة لا خير ولا شرّ إلا بالنسبة للعباد كما أشار إليه قوله تعالى :{فَأَمَّا الْإِنسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ}[الفجر : 15] {وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ}[الفجر : 16] كلّا أي : ليس الأمر في نفسه كذلك، بل الكل رحمة وإكرام، وأيضًا قد يكون العطاء منعًا والمنع عطاء فلا إكرام في العطاء، ولا إهانة في المنع فلا فرح بشيء ولا على شيءٍ، فلا تقل في الإكرام ولا بالإهانة، بل {قُلْ كُلٌّ مِّنْ عِندِ اللَّهِ}[النساء : 78] أي : قل أيها العبد السالك : أن كل الأمور مبدئها من عند الله لا اختلاف فيها بالخيرية والشرية من حيث أنها مخزونة عنده تعالى في خزائنه تعالى العلمية التي هي حقائق الأشياء وأعيانها الثابتة، وإنه يعطي كل شيء ما اقتضى عينه من غير زيادة ونقصان أي : قابلية المُعطي له، فالاختلاف ليس إلا من مقتضيات الأسماء والصفات وعلى حسب استعداد الأعيان.
فإن قُلتَ أيها السالك : القول المذكور فيصير الكل خيرًا عندك لا ترى فيها اختلافًا، فاخرج أنت عن هواك حتى تخلص عن ورطات كثيرة، وإذا أخرجت عن هواك فلا تبقى لك نية في شيءٍ تكون أنت حقًّا تحت قهر الأمر، ومن كان مقهورًا فهو بربه، ومن كان بربه لا يفته شيئًا من أدبه، ولم يتوقف له شيء من مطلبه فهو في أمن من الله لا يخاف من شيءٍ ولا يُخَوِّفُه شيء.