فيما يجب الاغتباط بهذا العلم وأنه أحق ما يوجه إليه الفكر والعزم، يكفي في ذلك أمران :
أحدهما : أن التضلع من هذا العلم يقي صاحبه سوء الخاتمة، ويحمله على التوبة والإنابة وسلوك ما يوجب الفوز بالسعادة. فقد نقل الشيخ أبو طالب المكي في كتابه "قوت القلوب" والإمام أبو حامد الغزالي في كتابه "الإحياء" عن بعض العارفين أنه قال : مَن لم يكن له نصيب من هذا العلم - أي : علم الباطن - أخاف عليه سوء الخاتمة، وأدنى النصيب منه التصديق به وتسليمه لأهله.
وقال الشيخ أبو الحسن الشاذلي رضي الله عنه : مَن لم يتغلغل في علمنا هذا مات مُصِرَّا على الكبائر وهو لا يشعر.
الثاني : أنه سبب كل خير وفوز وفتح ونور، وبه يكثرالحسنات ويرتقي بفضل الله إلى أعلى الدرجات، لأن الاشتغال بطريق القوم سبب التصديق بهم، وهو سبب محبتهم، ومحبتهم تؤدي إلى الشوق إلى مجالستهم، ومجالستهم تؤدي إلى النظر في وجوههم، وفي هذا من الفضل ما لا يخفى.
أما التصديق بطريقتهم فقد تضمن ولاية الله لعبده، لقول الإمام أبي القاسم الجنيد رضي الله عنه : التصديق بطريقنا ولاية.
وأمّا محبتهم فقد تضمنت الحشر معهم لقوله صلى الله عليه وسلم : (مَنْ أَحَبَّ قَوْمًا حُشِرَ مَعَهُمْ) وقوله : (المَرْءُ مَعَ مَنْ أَحَبَّ).
وأمّا الشَّوق إلى مجالستهم فقد تضمن الاتصاف بسيرتهم لقوله صلى الله عليه وسلم : (المَرْءُ عَلَى دِينِ خَلِيلِهِ) لأنَّ الطِّباع تسرق الطِّباع.
وأمَّا النَّظر في وجوههم على وجه المحبَّة فقد تضمن خيرَ أجرِ عبادةِ العابدين لقوله صلى الله عليه وسلَّم : (نَظْرَةٌ فِي وَجْهِ أَخٍ فِي الله عَلى شَوقٍ إلَيه خَيْرٌ مِنْ أَجْرِ مَنْ اعْتَكَفَ فِي مَسْجِدي هذا أَرْبَعينَ سَنَة).
ونقل الإمام النووي في شرح المهذب عن الإمام الشافعي رضي الله عنه أنه كان يقول : استفدتُ من الصوفية شيئين :
قولهم : الوقت سيف إن لم تقطعه قطعك.
وقولهم : إن لم تشغل نفسك بالخير شغلتك بالشر.
قال الشيخ الشعراني رضي الله عنه : فانظر كيف نقل الإمام الشافعي رضي الله عنه ذلك عن الصوفية دون غيرهم، تعرف بذلك مزيد خصوصيتهم، ولو أنَّ غيرهم كان على قدم الجد والاجتهاد كالصوفية لنقل ذلك عن أشياخه في علم الظاهر.
وقال بعضهم : إذا رأيت من فتح له في التصديق بهذه الطريقة فبشره، وإذا رأيت من فتح له في الفهم فيه فاغتبطه، وإذا رأيت من فتح له في النظر فعظِّمه، وإذا رأيت منتقدًا ففِرَّ منه واهجره، وما من علم وقد يقع الاستغناء عنه في وقت ما إلا علم التصوف فلا يستغنى عنه في وقت من الأوقات.
وقال في القوت : واتفقوا على أنه علم الصديقين وأن من كان له نصيب منه فهو من المقربين فوق درجة أصحاب اليمين.