الوصل الثاني
الذكر
كأداة وصل بين الأرواح الإنسانية
وهذه الوظيفة يظهر فيها مبدأ التناسب بوضوح تام. كما أنها تمثل وتتضمن السر
الرئيسي في حدوث الاسوة الحسنة: وتحقيق الوحدة الروحية والسلوكية للامة الإسلامية.
وهذا التواصل يؤصله التواصل الخاص برسول الله صلى الله عليه وسلم مصدر الأسوة
الحسنة ومركزها.
أولا: الذكر كوسيلة للتواصل الروحي بين النبي صلى الله عليه وسلم وصلحاء أمته:
فالتواصل به كان يتم مباشرة على مستوى الظاهر والباطن أي بحضوره الجسدي والروحي،
وذلك لأن تلقينه للصحابة كان تلقينا سماعيا وإيحائيا، وان التلقين الإيحائي كان
يمثل السر في الإنطباع الكلي للتلقين السماعي في قلوبهم وبواسطته كان ينقل الصحابي
من مستوى السماع الى مستوى قريب من المشاهدة العينية كما عبر عن ذلك حنظلة في قوله
لرسول الله صلى الله عليه وسلم «نكون عندك تذكرنا بالنار والجنة حتى كأنا رأي
عين فإذا خرجنا من عندك عافسنا الأزواج والأولاد والضيعات فنسينا كثيرا. فقال رسول
الله صلى الله عليه وسلم والذي نفسي بيده أن لو تدومون على ما تكونون عندي وفي
الذكر لصافحتكم الملائكة على فرشكم وفي طرقكم ولكن يا حنظلة ساعة وساعة ثلاث مرات»
رواه مسلم.
وكذلك ما يروى عن الحارث بن مالك أنه مر برسول الله صلى الله عليه وسلم فقال:
كيف أصبحت يا حارث قال : أصبحت مؤمنا حقا. قال: انظر ما تقول فإن لكل شيء حقيقة
فما حقيقة إيمانك، فقال : عزفت نفسي عن الدنيا فأسهرت ليلي واظمأت نهاري
وكأني انظر إلى عرش ربي بارزا وكأني انظر إلى أهل الجنة يتزاورون فيها وكاني أنظر
إلى أهل الدنيا يتضاغون فيها. فقال : «يا حارث عرفت فالزم ثلاثا». فكانت مثل هذه التصريحات دليلا على قوة
التواصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم مباشرة على مستوى الأرواح والاشباح. مما
أنتج أسوة حسنة أصبح بفضلها أصحابه كالنجوم الزاهرة بأيهم اقتدينا اهتدينا.
لكن، بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم هل بقي ذلك التواصل على مستواه أم انه انقطع باختفاء شخص الرسول صلى الله عليه وسلم ووفاته؟.
فالنصوص الشرعية تؤكد ان التواصل مازال قائما بين روحانية الرسول صلى الله عليه
وسلم وروحانية الأتقياء من أمته. وكنماذج على هذا ما رواه أحمد وأبو داود بإسناد
جيد من حديث حيوة بن شريح المصري حدثنا أبو صخر عن يزيد بن قسيط عن أبي هريرة رضي
الله عنه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال :«ما من احد يسلم علي إلا رد
الله علي روحي حتى أرد عليه السلام»
وكذلك الحديث المشهور في قوله صلى الله عليه وسلم : «أكثروا علي الصلاة في كل
يوم جمعة فإن صلاة أمتي تعرض علي يومئذ فمن كان أكثرهم علي صلاة كان أقربهم مني
منزلة».
وهذان الحديثان يؤكدان وجود التواصل بين الأمة الإسلامية وبين الرسول صلى الله
عليه وسلم والذي أساسه الذكر. لأن الصلاة على النبي هي دعاء وذكر إذن فالذكر كان
الضامن لتحقيق هذا التواصل وبالتالي الشرط الاساسي الذي بواسطته تحصل الاسوة الحسنة
مما يعني القرب من رسول الله صلى الله عليه وسلم والذي لا يكون إلا بحسب مستوى
التقليد والائتساء.
وكتعضيد شرعي وتجريبي في آن واحد لمبدأ التواصل بين الرسول والمؤمنين به من امته
يطرح موضوع الرؤيا كدليل قطعي على ذلك، إذ رؤيا النبي صلى الله عليه وسلم بالنص
الشرعي تبقى في كل الحالات رؤيا حقيقية وليست وهمية أو مختلطة بالحلم الذي هو مزيج
من الاضغات والخيالات الشاردة، وهو ما دل عليه النص الشرعي بكل وضوح في عدة أحاديث
من بينها: عن أبي هريرة قال : «سمعت النبي صلى الله عليه وسلم يقول : من رآني
في المنام فسيراني في اليقظة ولا يتمثل الشيطان بي».
وكذلك عن أبي سعيد الخدري سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول:
«من
رآني فقد رأى الحق. فإن الشيطان لا يتكونني» رواه البخاري .
فهذا الحديثان وغيرهما فيهما الكفاية للدلالة على وجود التواصل الروحي بين رسول
الله صلى الله عليه وسلم وأفراد أمته وبما أن الرؤيا واردة ومتواترة الوقوع إذن
فالتواصل حاصل. وهذا ليس بمستبعد لا من الناحية الشرعية كما رأينا ولا من الناحية
العقلية ولا الذوقية الوجدانية.
فمن الناحية الشرعية نجد الدلائل القطعية على ان الرسول حاضر في سلوك أمته سواء
بالمباشرة أو بالتسلسل الائتسائي الوراثي أو بالتواصل الجزئي المتمثل إما في رد
السلام أو الخطور في الرؤيا مما أدى إلى اعتبار هذه الرؤيا امتدادا لخصوصية من
خصوصيات النبوة كوراثة روحية ومعرفية، كما تضمنها حديث انس بن مالك أن رسول الله
صلى الله عليه وسلم قال : الرؤيا الحسنة من
الرجل الصالح جزء من ستة واربعين جزء من النبوة».
واما من الناحية العقلية والذوقية الوجدانية فالتسليم اليقيني بوجود الروح
والتسليم باختراق الروح للجسد سواء في إيهابه الحياة أو في إحالته على الموت فقد
يكون مؤهلا لاختراق الاكوان والأزمان، أي أنه لا يفنى بفناء الجسد ولا يحصر بحيزه
ومكانه. ولهذا فوجودها في عالم الآخرة أو في الدنيا لا يمثل بالنسبة إليه حاجزا عن
التواصل بجنسها من الأرواح.
وقد ضرب لهذا الامكان سيدي حمزة شيخ الطريقة القادرية البودشيشية مثالا محسوسا رائعا وذلك بتمثيله الروح على شكل صاروخ يريد ان
يخترق الغلاف الجوي للارض والخروج عن محيطه إلى فضاء اوسع.
إلا أن إمكانية تجاوز هذا الغلاف لا يتم إلا بواسطة طاقة هائلة من الحرارة تدفع
بالصاروخ إلى الصعود نحو الأعلى، وهذه الطاقة تحتاج إلى وقود طبعا.
وعلى هذا المثال قاس اختراق الروح للجسد وتواصلها مع الارواح بدون حواجز المكان
والزمان. إذ قال ما معناه بأن الروح مكبلة بالجسد لكنها قد تصل إلى درجة من الشوق
والمحبة تمثل الطاقة الحرارية الكبرى التي تجعلها تغادر الجسد إلى عالم الملكوت.
وهذه الطاقة لا تتحقق إلا عن طريق ذكر الله تعالى المزود لطاقة المحبة بالوقود
اللازم والمحدد الفعلي لدعوى المحبة وصدقها مصداقا لقول الرسول صلى الله عليه
وسلم: «من أحب شيئا أكثر من ذكره».
وعلى هذا فأقوى الارواح تزودا بوقود المحبة وطاقتها هو روح رسول الله صلى الله
عليه وسلم. ولهذا فهو حبيب الله، وبهذه الصفة أمكنه العروج إلى ما فوق سدرة
المنتهى مخترقا بذلك السموات العلى إلى أن مثل بين يدي رب العالمين، حيث أدى تحية
الشكر والعبودية لله تعالى بغير احتياج لمكان أو زمان رغم جسده، لأنه كان نورانيا
تبعا لروحه، ولذلك لم يكن له ظل كما ورد في السيرة. والرسول صلى الله عليه وسلم هو
الذي شخص هذه المحبة تشخيصا عمليا بواسطة الذكر كما قالت عنه عائشة رضي الله عنها
لما سئلت عن أحواله بأنه «كان يذكر الله في كل أحاينه». ومن خلال هذه الصفة المؤسسة للمحبة
يمكن التواصل مع رسول الله صلى الله عليه وسلم. تواصلا روحيا لان الاداة الموظفة
هي أداة روحية ولا يمكن التواصل إلا بها.
وهذا هو الذي أمكن فهمه من آية الأسوة والتي هي في الحقيقة المقعد الرئيسي لهذا
التواصل بين الرسول صلى الله عليه وسلم وأمته وهو ما يمكن إدراكه خصوصا بوضوح عن
طريق الذوق الوجداني بالنسبة إلى اهل التجربة في ميدان الذكر المتواصل والمنظم
منهجيا وأورادا، إذ بالامكان تشخيص السيرة النبوية والتجوهر بها كما عبر بذلك سيدي
حمزة القادري بودشيش في بعض توجيهاته لأهل العلم من المريدين بالتركيز على تلقين
إخوانهم دروسا في السيرة النبوية الصحيحة، فقال ما مجمله: إن الفقير أو المريد إذا
توافق أن كان ذاكرا لله تعالى واستمع إلى دروس السيرة من ذاكر أيضا فإنه سيصبح مثل
الجوهرة في سلوكه وأخلاقه.
وهذا صحيح ومجرب، لأن التواصل الروحي بين الرسول وأمته هو تواصل تربوي توحيدي في
بعده يتحصل عليه بحسب استعداد القلوب للتلقي. ولهذا كانت الرؤيا تمثل إحدى قنوات
هذا التواصل كوسيلة تربوية مباشرة من رسول الله صلى الله عليه وسلم لبعض افراد
أمته الذين تحققت فيهم صفة المحبة والمزودة بذكر الله والصلاة على رسوله صلى الله
عليه وسلم. وهذا هو ما فهمه كثير من اعلام الامة الإسلامية عند تفسيرهم لرؤيا
الرسول وكيف أنها تكون حقيقة رغم انها ترد على صور مختلفة ويظهر فيها الرسول صلى
الله عليه وسلم في هيئات وسمات متعددة. كما ذهب إلى هذا النووي وغيره من جمهور
العلماء، واختار منهم ما حكاه العسقلاني في «فتح الباري شرح صحيح البخاري» عن
الشيخ أبو محمد بن أبي جمرة، فقال بعد أن حكى الخلاف الدائر حول طبيعة الرؤيا «
ومنهم من قال إن الشيطان لا يتصور على صورته أصلا - أي صورة الرسول صلى الله عليه
وسلم- فمن رآه في صورة حسنة فذاك حسن في دين الرائي، وإن كان في جارحة من جوارحه
شيء أو نقص فذلك خلـل في الـرائـــي من جهة الدين.
قال، وهذا هو الحق، وقد جرب ذلك فوجد على هذا الاسلوب، وبه تحصل الفائدة الكبرى في
رؤياه حتى يتبين للرائي هل عنده خلل اولا، لأنه صلى الله عليه وسلم نوراني مثل
المرآة الصقيلة ما كان في الناظر إليها من حسن أو غيره تصور فيها وهي في ذاتها على
احسن حال لا نقص فيها ولاشين، وكذلك يقال في كلامه صلى الله عليه وسلم في النوم
انه يعرض على سنته فما وافقها فهو حق وما خالفها فالخلل في سمع الرائي او بصره»
قال وهذا خير ما سمعته في ذلك على حد تعبير العسقلاني.
وهذا التفسير للرؤيا وبعدها السلوكي يعاش ميدانيا لدى فئات خاصة من المسلمين وخاصة
اهل الذكر المتواصل من الذين يسمون بالصوفية او السابقين والمقربين وغيرهم ممن
يستحقون هذه الألقاب الإيمانية والتاريخية .
وقد حدد الغزالي فئة منهم في هذا المجال بقوله، «والقدر الذي أذكره لينتفع به أني
علمت يقينا ان الصوفية هم السابقون لطريق الله تعالى خاصة وأن سيرتهم أحسن السير
وطريقهم أصوب الطرق واخلاقهم أزكى الاخلاق. بل لو جمع عقل العقلاء وحكمة الحكماء
وعلم الواقفين على أسرار الشرع من العلماء ليغيروا شيئا من سيرهم واخلاقهم ويبدلوه
بما هو خير منه لم يجدوا إليه سبيلا فإن جميع حركاتهم وسكناتهم في ظاهرهم وباطنهم
مقتبسة من نور مشكاة النبوة وليس وراء نور النبوة على وجه الارض نور يستضاء به،
وبالجملة فماذا يقول القائلون في طريق طهارتها وهو اول شروطها تطهير القلب بالكلية
عما سوى الله تعالى. ومفتاحها الجاري منها مجرى التحريم من الصلاة استغراق القلب
بالكلية بذكر الله وآخرها الفناء بالكلية في الله وهذا آخرها بالإضافة إلى ما
لايكاد يدخل تحت الاختيار والكسب من أوائلها وهي على التحقيق أول الطريقة».